واضح لكل ذي بصر أو بصيرة، ولكل مراقب عربيا كان أو أعجميا أو إسرائيليا، محايدا أو منحازا لإسرائيل أو معارضا لسياساتها العنجهية، أن التصعيد الإسرائيلي الأخير في المسجد الأقصى ما كان له أن يمرّ مرور الكرام. فالفلسطينيون في كل أماكن تواجدهم، لم يكتفوا بمراقبة أشرطة الفيديو التي تظهر عمليات التدنيس والتنكيل والاعتقالات الجماعية للمعتكفين، والتحسر على ما يجري، بل أوصلوا رسالتهم واضحة ومجلجلة: لن يترك الأقصى ولا المقدسيون وحدهم في هذه المواجهة.
هذه الرسالة هي الحقيقة التي يتجاهلها المحتلون على مر الزمان، فأحداث الصراع الممتدة لقرن من الزمان تثبت أن المسجد الأقصى ليس مجرد مبنى أو “أصول عقارية” كما كان يظن الرئيس المتهم دونالد ترامب، وكما اعتقد قبله الرئيس بيل كلينتون الذي أبدى دهشته أن كل تعقيدات الأزمة ومفاوضات كامب دافيد الثانية عام 2000 ترتبط بالبلدة القديمة للقدس التي لا تزيد مساحتها عن ألف دونم.
من الصعب إفهام هؤلاء أن مشاعر الفلسطينيين ووجدانهم وقلوبهم ترتبط بهذه البقعة لأسباب عقيدية دينية وروحانية وثقافية ووطنية وسياسية يصعب حصرها، وهو قبلة المسلمين الأولى وثاني المسجدين وثالث الحرمين، إليه تُشدّ الرحال، وله مكانة سامية في وجدان مئات ملايين البشر على امتداد العالم. لذلك فإن استمرار الصراع والمواجهات ينبغي أن يقنع العالم بألا يسمح لإسرائيل بالعبث بالمسجد الأقصى ومحاولة تغيير الواقع التاريخي المرتبط به والمعزز بجملة من القرارات الدولية بدءا من قرارات لجنة التحكيم الدولية عام 1930 التي شكلتها عصبة الأمم وصولا لعشرات قرارات الأمم المتحدة، وجوهره أن المسجد الأقصى بجميع مبانيه وساحاته ومرافقه هو وقف إسلامي خالص لا يجوز لقوة الاحتلال المساس بمكانته.
كثير من المعارك الوطنية الكبرى انطلقت من المسجد الأقصى أو بسببه بدءا من هبة البراق عام 1929 مرورا بانتفاضة النفق عام 1996 وانتفاضة الأقصى عام 2000، ثم معركة سيف القدس وصولا إلى ما يجري الآن. ولا ننسى أن حريق المسجد الأقصى عام 1969 كان السبب المحرك لقيام منظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون الإسلامي لاحقا) وهو تكتل دولي مهم يفترض به أن يلعب دورا مؤثرا لصالح القضايا العادلة للشعوب والدول الإسلامية وفي مقدمتها قضية القدس والمسجد الأقصى.
تدرك إسرائيل أهمية المسجد الأقصى للفلسطينيين وللعرب والمسلمين، ولكنها تعتقد أنها تملك من القوة ما يمكّنها من حسم الصراع في ضوء حالة الانقسام والتفكك الفلسطينية والعربية التي تضعف قدرة الفلسطينيين والعرب على التصدي الفعّال لمخططات الاحتلال، ولكن إسرائيل تتجاهل حقيقة أن القوة العسكرية مهما بلغ بطشها وتفوقها فهي محدودة القدرة على حسم المعركة، علاوة على صعوبة فرض شروطها السياسية على الفلسطينيين، وهي تتجاهل كذلك أن المساس بالأقصى والاقتراب من الخطوط الحمر إبان معركة سيف القدس في أيار 2021 أعاد توحيد تجمعات الشعب الفلسطيني، ووحّد نضالها دفاعا عن الأقصى بصورة لم يسبق لها مثيل منذ النكبة، فانقلب السحر على الساحر، وتفوقت صدور الفلسطينيين العارية وصمودهم وأسلحتهم البسيطة، وتضامنهم ووحدة كفاحهم في الوطن والشتات، على ترسانة القتل والدمار.
بات شائعا أن المعركة مع إسرائيل لا تُحسم بالضربة القاضية بل بالنقاط، وفي هذا الصدد، أي بتركيز الحديث على القدس والمسجد الأقصى، ووسط هذه المعركة الطويلة، لا بد من الإقرار أن دولة الاحتلال حققت بعض النقاط ولكنها بعيدة جدا عن القدرة على الحسم، من بين هذه النقاط تقديم خيار التقسيم الزماني والمكاني وكأنه خيار ممكن وواقعي، يجري “تبليعنا” إياه بالتدريج بتنفيذ التقاسم الزماني أولا دون أن تنطبق السماء على الأرض، ولا تتجاوز الردود العربية والإسلامية حدود الشجب والكلام، ويجري استدراج المفاوض الفلسطيني لإعادة دخول متاهة البحث عن السراب واستشراف آفاق التسوية السياسية، ومطالبة السلطة الفلسطينية مجددا بإثبات حسن نياتها ودعوة الطرفين إلى اتخاذ خطوات لإعادة بناء الثقة، وكأن ثلاثين عاما من مفاوضات التسوية العقيمة لم تعلمنا أن هذا السبيل لا يقودنا إلا إلى مزيد من التيه والضياع. إسرائيل عينها الآن على تنفيذ التقاسم المكاني واقتطاع جزء من المسجد الأقصى، وقد يكون باب الرحمة أو المساحة المجاورة لباب المغاربة. وثمة قوى صهيونية متطرفة تجاهر بمشروعها لإعادة بناء الهيكل الثالث المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى. ربما يبدو هذا الاحتمال للبعض ضربا من الجنون الذي تسعى لتنفيذه جماعة من المهووسين الهامشيين. ولكن لا ! هؤلاء لم يعودوا كذلك كما كان عليه الحال أيام المدعو غرشون سولومون، بل إنهم انتقلوا من هامش الخريطة السياسية إلى مركزها المقرر، وبات لهم وزراء ونواب في الكنيست وجمعيات أهلية تدعمهم وتموّلهم، وائتلاف واسع لمنظمات ما يسمى جبل الهيكل، وصف عريض من رجال الدين الذي يفتون لهم ويسوّغون أمر بناء الهيكل الثالث خلافا لما دأبت عليه الحاخامية الكبرى الشرقيين والغربيين على السواء- نذكر هنا أن الحاخام الأكبر لليهود الشرقيين اسحق يوسف يعارض ما يقوم به هؤلاء المتطرفون ويحذر من خطره على الدين وعلى حياة اليهود أيضا-.
التيارات السياسية المركزية في إسرائيل لا تؤيد خطة المتطرفين بكاملها، ولكنها تتقاطع معها وتغطي عليهم وتسايرهم، وتوظف مشروعهم لتحقيق أهدافها السياسية في فرض السيادة الإسرائيلية المطلقة على القدس، والقضاء على أي مظهر من مظاهر الحضور الفلسطيني فيها.
عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على التنفيذ التدريجي المتصاعد لتنفيذ هذا المخطط الخطير في الأقصى، فهي بدأت بالحديث عن حرية اليهود في “الزيارة”، ثم انتقلت للحديث عن “حرية العبادة للجميع” وكأن الأمر يتعلق بأرض مشاع لا هوية لها ولا يعرف صاحبها.
قبل سنوات طويلة كان الشيخ رائد صلاح يحذر من الخطر المحدق بالمسجد الأقصى، وينظم حملات شعبية لشد الرحال والدفاع عن الأقصى، وكانت الأنظار تتجه للحفريات تحت الأقصى وخطورتها، لم يكن كل الناس يأخذون تحذيرات الشيخ على أنها تتحدث عن خطر داهم وشيك، يتضح الآن أن على الجميع شعوبا وقبائل ودولا وحكومات وفصائل أن تأخذ هذه التحذيرات والمخاطر على محمل الجد، بل على أعلى درجات الجدية.