كتب: رجب أبو سرية
واجتماع الجمعية العمومية، يبدأ بخطاب لأمينها العام، يتضمن ما يمكن اعتباره بمثابة التقرير السنوي لما أنجزته المنظمة، التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية_كما ذكرنا أعلاه_ وذلك لتحقيق السلم والأمن والاستقرار الدوليين، لكن أمضت المنظمة الدولية، معظم عمرها في ظل حرب باردة، أو في ظل نظام عالمي ثنائي القطبية، ثم تلاه نظام عالمي أحادي، منذ نحو ثلاثة عقود، وشهدت حروبا إقليمية عديدة، عجزت المنظمة عن وضع حد لها، ودليل ذلك أن قرارات الجمعية العمومية وحتى مجلس الأمن في الغالب تظل حبرا على ورق، وخير دليل أو شاهد إثبات على هذا هو جملة القرارات التي اتخذتها المنظمة تجاه ملف الصراع العربي/الإسرائيلي ثم الفلسطيني/الإسرائيلي، كذلك تلك القرارات التي اتخذتها الجمعية العمومية ومجلس الأمن إزاء فلسطين، منذ قرار التقسيم وليس انتهاء بالقرارات الخاصة بالاستيطان، أو تلك التي تدين بشكل متواصل الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين.
هذه الدورة التي تعقد هذا العام لن تختلف كثيرا عن الدورات السابقة لاجتماعات الجمعية العامة، وذلك من حيث تتابع كلمات رؤساء الوفود، والذين بلغ عددهم هذا العام 150 رئيسا ورئيس حكومة، وهذا جمع لا يمكن تصوره ولا في أي اجتماع إقليمي، وحيث أن اجتماع الجمعية العامة يترافق مع مؤتمرات اختصاصية تعقدها المنظمة، فإن المؤتمر مشغول هذا العام بالتنمية المستدامة والتغير المناخي، أي بموضوعات ليست سياسية، وتهم العالم بأسره، لكن حتى هذه من غير المتوقع أن يتوحد العالم في مواجهتها، نظرا لما هو عليه من انقسام حالي، بل من صراع واضح، أعاد للأذهان أجواء الحرب الباردة، نظرا إلى أن طرفي الصراع هما روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي السابق، والولايات المتحدة، التي تختفي وراء أوكرانيا.
وطبعا فإن ما يمنح الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة أهميته الخاصة، إضافة لكونه اجتماعا سنويا فقط، أي دوري، هو أن كل العالم يحضره، ممثلا برؤوس الهرم السياسي في كل دولة، يتقدمهم بالطبع قادة الدول العظمى الخمس، لكن هذا العام، فإن عدم حضور كل من رئيسي روسيا فلاديمير بوتين، والصين شين جينغ بينغ، وفرنسا ايمانويل ماكرون، وحتى رئيس وزراء بريطانيا ريتش سوناك، يظهر المدى الذي وصلته الأمم المتحدة من فقدان متزايد للأهمية.
هذا التراجع في أهمية الأمم المتحدة، رغم أنها لم تكن خلال 78 عاما مضت بمثابة «دولة العالم»، وذلك لأنها كانت تسعى إلى توحيد عالم منشطر في ثنائية قطبية، دخلت مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية في حروب إقليمية شاركت فيها من وراء الكواليس_كما اشرنا في مقال سابق_ يمكن الوقوف على صورته حين نعقد المقارنة مع مؤتمرات إقليمية أو تجمعات اقتصادية مثل اجتماعات السبع الكبار، أو مؤتمر العشرين، أو حتى «بريكس» اللذين عقدا قبل أسابيع قليلة، وكل الدنيا شهدت ما أحدثه اجتماع «بريكس» في جنوب أفريقيا من ردود فعل ومن اهتمام دولي، كذلك ما شهدته قمة العشرين في نيودلهي، خاصة لجهة الإعلان عن مشاريع عابرة للقارات، مثل الممر الاقتصادي الذي يربط الهند بأوروبا عبر السعودية.
ومع أن رؤساء الصين وروسيا وفرنسا، لم يشاركوا شخصيا في هذه الدورة، إلا أن العديد من الرؤساء الذين يمثلون معظم سكان الكرة الأرضية، قد تحدثوا عن ضرورة قيام دولة فلسطين، التي تعتبر قلب العالم، بمن فيهم الرئيس الأميركي نفسه جو بايدن الذي أكد على حل الدولتين، وهذا في الحقيقة أمر يتكرر كل عام، خاصة خلال العقود الثلاثة الماضية، أي منذ انتهاء الحرب الباردة، وبالتحديد منذ إعلان المبادئ بين فلسطين وإسرائيل، لكن رغم أن قلب العالم مع فلسطين، إلا أن سيف أميركا ورئيسها بايدن ليس معها بالطبع، فهو لا يقدم على مجرد توجيه إنذار أو حتى تحذير لإسرائيل التي تواصل احتلال فلسطين منذ 56 سنة، ولا تهديدها بعقوبات أو ما شابه ما يقدمه لأوكرانيا مثلا، لذا فإنه لا رجاء يطلب لا من أميركا ولا من الأمم المتحدة، التي هي جمع متناقضات العالم، في أحسن أحوالها، وفي أسوأها هي مجرد إطار دولي يسمح للولايات المتحدة باعتبارها البلد المضيف والممول الأكبر للمنظمة، بالتأثير والتدخل في شؤون دول العالم.
وعلى أي حال، ورغم أن الأمم المتحدة لم تنهار أو تتفكك مع انتهاء الحرب الباردة، ورغم أنها ما زالت على هيكلها الشائخ، والذي جرت هندسته بناء على نتائج الحرب العالمية الثانية، ووفق توافق الدول التي انتصرت في تلك الحرب، فإن تضاؤل أهميتها، يبرر التساؤل حول إن كانت ستبقى مع المتغيرات الدولية، أو أن الأقرب إلى العقل هو أن يجري إحداث تغييرات عليها، تمس أهم مؤسسة فيها، أي مجلس الأمن، ورغم أن رئيس أوكرانيا الذي يبدو أنه يعيش في أحلام أميركية خيالية جدا، تشبه أفلام حروب الفضاء الأميركية طالب بسحب حق النقض «الفيتو» من روسيا، على خلفية حربه معها، حيث تواجه مع وزير الخارجية الروسي في اجتماع مجلس الأمن، لأول مرة منذ الحرب بين بلديهما التي اندلعت في شباط من العام 2021، رغم ذلك فإنه يمكن القول بان أية تغييرات على الأمم المتحدة تحتاج توافقا دوليا حولها، خاصة بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهذا غير ممكن، لذا ستظل المنظمة تعاني من الشلل والعجز.
أما في حال ظهور بشكل صريح وواضح نظام عالمي جديد، كما أعلن بذلك صراحة قبل أيام وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكين، فإنه يمكن لمنظمة دولية أخرى أن ترث الأمم المتحدة، أو أن يجري تغيير جوهري عليها، يأخذ بعين الاعتبار التغيرات الدولية خلال ثمانين سنة مضت.
المهم أن فلسطين التي لم تظفر من الأمم المتحدة سوى بقلبها دون يدها، عليها أن تتبنى إستراتيجية كفاح وطني من أجل إقامة الدولة المستقلة تقوم على أساس المصلحة الإقليمية لدول المنطقة في قيام دولة فلسطينية، والحقيقة أن دول الجوار لها مصلحة جلية في دولة فلسطين خاصة الأردن، وذلك بالنظر إلى أن طموح إسرائيل يتعدى حدودها كدولة آمنة ضمن الحدود التي قامت في إطارها عام 1948، والدولة الفلسطينية هي الضمانة الحقيقية لدول الجوار لصد المطامع الإسرائيلية الجغرافية في أراضيها، ، كذلك فإن إقامة دولة فلسطين، يحد من طموح إسرائيل بالتفوق ليس العسكري فقط ولكن الاقتصادي على كل دول الإقليم: إيران، تركيا، السعودية، مصر والإمارات.