بقلم: عوض عبد الفتاح
يمكن اعتبار “يوم الأرض” عام 1976 الرصاصة الأولى التي أطلقت على منظومة الأبارتهايد، وتحديدا على أحد أهم أعمدة نظام الفصل العنصري، ألا وهو التجزئة أو التقسيم، الجغرافي والديمغرافي والثقافي. والمعنى أن الاضراب الشهير الذي نفذه فلسطينيو الـ48، المنسيون، وما أعقبه من مواجهات غير مسبوقة من حيث اتساعها وحدتها، دفع بالفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967، إلى الالتحاق بالإضراب، في أول عمل وحدوي منذ النكبة، شمل فلسطين التاريخية المجزأة، بين البحر والنهر. لقد وضع ذلك الحدث الكبير، الذي اجترحه هؤلاء الفلسطينيون الذين نجوا من مخطط الاستئصال، المدماك الأول في مسار اليقظة والوعي بوحدة فلسطين وشعبها.
ليس بالضرورة أن الذين خططوا أو صنعوا يوم الأرض في الميادين والشوارع وأزقة البلدات الفلسطينية، أقدموا على ذلك بوعي مسبق بهذه النتيجة الفعلية، أي تحطيم الحواجز النفسية والثقافية، التي نظّرت لها ونفذتها المؤسسة الصهيونية. لم يتوقعوا، وهم الذين كانوا خارج مؤسسات الحركة الوطنية الفلسطينية وعملية صنع القرار، أن يحوّلهم قراراهم بالتحدي وتنفيذ قرار الإضراب الشامل، إلى صانعي يوما وطنيا لعموم الشعب الفلسطيني، عابرا للتجزئة والتقسيم.
كان الهدف المباشر للإضراب الدفاع عن أراضيهم، التي كانت تُسحب من تحت أقادمهم بصورة متسارعة وتُهدد مصادر عيشهم وبقائهم وتطورهم. لا شك بأن تراكم إفرازات سياسات القمع والنهب وممارسات الاستعمار الداخلي من جهة، ومواكبة وتفاعل النخبة السياسية والمثقفة والمتعلمة المتنامية مع قضايا السياسة، ومع تطورات وصعود الحركة الوطنية الفلسطينية في أماكن اللجوء من جهة أخرى. كل ذلك أنتج حالة غضب عامة تحولت إلى غضب شعبي ومواجهات عنيفة في عموم الجليل، والمثلث، والنقب، والساحل.
لم يكن مصطلح الأبارتهايد سائدًا بين الناس ولا حتى المثقفين، فالناس عموما رغم تكيّفهم مع واقع الحياة، نظروا إلى إسرائيل ككيان غازٍ غريب جاء من الخارج، وأن مسألة وجوده مؤقتة. أما النخبة المسيسة، فقد انقسمت في نظرتها وتعريفها لدولة إسرائيل، بين من ميّز إسرائيل التي أقيمت على 78% من فلسطين على أنها تجسيد لحق تقرير المصير لليهود والحركة الصهيونية؛ ومن نظر إليها كتجسيد وامتداد لحركة استعمارية استيطانية. وربما كتاب “الاستعمار الصهيوني في فلسطين” الصادر عام 1965، للأكاديمي وعضو المجلس الوطني الفلسطيني فايز الصايغ، كان فريدا في ذلك الوقت، في عقد المقارنة بين إسرائيل ونظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا. كما أنه حتى بعد صدور قرار إدانة الصهيونية كحركة عنصرية من قبل الأمم المتحدة عام 1974، نادرا ما ظهر مصطلح الأبارتهايد في الخطاب السياسي والثقافي الفلسطيني. فبعد احتلال الضفة والقطاع عام 1967، حتى تعريف إسرائيل كنظام استعماري استيطاني، وهو التعريف الأصيل والأدق، بدأ يختفي بعد أن دفع اللاعبون الدوليون والعرب منظمة التحرير الفلسطينية إلى قبول دولة في ذلك الجزء الصغير من فلسطين. وبات مصطلح “المحتل” أو “الاحتلال الإسرائيلي” مهيمنا على الخطاب الرسمي لمنظمة التحرير، بفرضية أن الاحتلال الضفة والقطاع منافٍ للشرعية الدولية وبالتالي فهو مؤقت، وبناءً عليه ظنوا أن الدولة قادمة ولا ينقص سوى التخلي عن كامل الطموحات الفلسطينية. وبهذا تم فعليا إسقاط تعريف إسرائيل كونها كيانا استعماريا ولد منه نظام فصل عنصري.
لم يوقف يوم الأرض مخطط الاستيلاء على الأرض، ولا المشروع الصهيوني التوسعي، وإن كان نجح في حينه في استرجاع حوالي 20 ألف دونم كانت قد خططت المؤسسة الصهيونية بتحويلها إلى منطقة عسكرية مغلقة. ولكن هذا اليوم التاريخي وما تبعه من تصاعد من أيام نضالية ومقاومة الشعبية، وولادة حركات سياسية وطنية وأطر شعبية وطلابية، وضع عتلة في دولاب مشروع التجزئة الاستعمارية والتفتيت، تحديدا في مجال الهوية والانتماء. ولا يغير من هذه الحقيقة أن أوساطا سياسية وشرائح اجتماعية تكيفت مع ضغوطات وإغراءات المؤسسة الصهيونية، التي تتنصل من الارتباط والانتماء للشعب الفلسطيني، وبعضها انحدر نحو تحالفه المشين مع حكومة صهيونية.
واليوم، تأتي تقارير المنظمات الدولية وبفضل النضال الفلسطيني الوحدوي الشعبي، لتضع النقاط على الحروف، وتعرف إسرائيل، ومنذ إقامتها، كنظام فصل عنصري، وأن هذا النظام ليس مقتصرا على مناطق الـ67، بل هو ولد مع إسرائيل منذ عام 1948. معنى ذلك، أن جميع الفلسطينيين من البحر إلى النهر، يرزحون تحت نظام فصل عنصري. وكل ذلك ما كان ليحدث لو أن هذا الجزء من شعب فلسطين بما فيه اللاجئون، الذين كانوا أول ضحايا النكبة، صمت على هذا الظلم المتواصل، والآخذ في التصاعد طرديا مع تصاعد أشكال الرفض والتمسك بالهوية والانتماء، وفكرة فلسطين الواحدة.
لقد جرى الفصل منذ اليوم الأول من خلال جريمة التطهير العرقي، فصل الناس عن وطنهم وتحويلهم إلى لاجئين، ومحاصرة من نجوا من جريمة الطرد وإخضاعهم تحت الحكم العسكري. وتكرس ذلك قانونيا عبر قانون أملاك الغائبين، وقانون العودة، عام 1950 و1952، وقوانين أخرى التي لا تزال تشكل ركيزة نظام الأبارتهايد الصهيوني، نظام الفصل.
لقد وضع الوجود الديمغرافي الفلسطيني، والنضال والصمود الفلسطيني، ورغم أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، هذا النظام العنصري أمام مأزق وجودي، سيظل يتفاقم إلى أن يسقط، وذلك عندما تتوفر وتنضج حركة وطنية متجددة وذات قيادة قديرة مرتبطة بشعبها لا وكيلا للاستعمار. عن “عرب ٤٨”