أفرجت صحيفة عبرية اليوم عن تفاصيل أشهر عملية تجسس لصالح المخابرات المصرية داخل إسرائيل والتي كان بطلها جاسوس زرعته مصر داخل تل أبيب منذ 65 عاما.
وقالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية التي نشرت تفاصيل القضية إنه تم الكشف عن قضية “عملية الحقنة الشرجية”، والتي أطلقت على عملية القبض على رجل القوات الخاصة الذي كان ضابطا في الجيش الإسرائيلي ويعمل لصالح مصر.
التحق أولريش شنفت، أو كما عرف فيما بعد باسم “غابرييل سوسمان” بالجيش الإسرائيلي وكان عضوا في “الوكالة اليهودية”، حتى أصبح جاسوسا في خدمة مصر وأجهزة استخباراتها، ومؤخرا تم الكشف عن الملف السري الذي جمعه مع جهاز “الشاباك” الغسرائيلي والذي وصف فيه كيف تمكن من خداع الإسرائيليين والتسلل بينهم حتى قام بخطوة واحدة خاطئة أدت للقبض عليه في النهاية.
وعلى غلاف ملف “الشاباك” الذي يخص “غابرييل سوسمان”، توجد صورة جواز سفر لشاب يرتدي زي الجيش الإسرائيلي بشارب، وكتب إلى جانبه أنه ولد عام 1923 في ألمانيا ، وهاجر إلى إسرائيل عند قيامها بعد عام 1948، وعاش في مدينة عسقلان وكان يعمل “مساعد صيدلي” وتم شرح سبب فتح القضية في ثلاث كلمات: “مشتبه به كمسيحي ألماني”.
وأوضحت الصحيفة العبرية أنه تم الكشف عن القضية المرتبطة باسم “سوسمان” قبل 65 عامًا، ومنذ ذلك الحين أثارت اهتماما مستمرا في الكتب والمقالات والشبكات الاجتماعية.
وعن تفاصيل القصة، قالت هآرتس أنها تعود لرجل ألماني من قوات الأمن الخاصة تنكر في زي يهودي بعد “الهولوكوست”، وجاء إلى إسرائيل على متن سفينة للاجئين، واعتقل في مخيمات في قبرص، ثم أطلق سراحه، وجند في الجيش الإسرائيلي، وأصبح ضابط مدفعية وبعد ذلك هرب بعد فترة، وبعد ذلك جندته مصر لصالحها، ولكن تم اعتقاله في عملية مشتركة مع الشاباك والموساد، وتم سجنه وترحيله من البلاد.
وأوضحت الصحيفة أن سوسمان، إذا كان لا يزال على قيد الحياة، فسوف يحتفل بعيد ميلاده المائة هذا العام، مشسرة إلى أن تفاصيل قصته نشر الأرشيف الإسرائيلي ضمن ملف الشاباك الذي يوثق مراقبته وكيف استطاع خداع السلطات لسنوات، حتى تم القبض عليه.
وفي إحدى الوثائق التي كتبها سوسمان بخط يده باللغة العبرية الخالية من الأخطاء، عن حياته بعد هجرته لإسرائيل، قال فيها: “مات والداي في المخيمات، هاجرت إلى إسرائيل في عام 1948 “، وصدقته السلطات الإسرائيلية قصته وبات فردا في المجتمع الإسرائيلي.
وتذكر الوثائق الرسمية أن “والديه ماتا في معسكر اعتقال”، لكن الحقيقة مختلفة تماما فقد ولد سوسمان عام 1923 في كونيجسبيرج في بروسيا (كالينينغراد الآن) وهي مقاطعة روسية بين بولندا وليتوانيا، كان ألمانيا ولد لأم عزباء، وهناك تم نقله إلى عائلة بالتبني، وفي عام 1941 تم تجنيده في الجيش الألماني وخدم في الجبهة الشرقية في الذراع العسكرية لقوات الأمن الخاصة للجيش الألماني، وقد جُرح وأسر من قبل الولايات المتحدة، لكن أطلق سراحه دون محاكمة.
وبعد الحرب العالمية الثانية، تنكر بزي يهودي واستقل سفينة الهجرة التي غادرت مرسيليا إلى إسرائيل في عام 1947 ، لكن البريطانيين استولوا عليها، ثم تم إرساله إلى معتقلات قبرص حيث انضم إلى عصابات “الهاغاناه” – النواة الأولى للجيش الإسرائيلي فيما بعد – وشارك في محاولات الهروب من الجزيرة القبرصية.
وفي عام 1948 هاجر إلى إسرائيل، وانضم إلى كيبوتس “كريات إينافيم” ووتجند في الجيش الإسرائيلي، وبعد بضعة أشهر تم إطلاق سراحه وانتقل إلى مستوطنة بالقرب من عسقلان، وكسب لقمة عيشه في دائرة الاستيطان التابعة للوكالة اليهودية وكان نشطًا أيضًا فيها وبعد ذلك انضم لقوات الاحتياط ، وخضع لدورة ضابط وتم تجنيده في سلاح المدفعية، وفي عام 1954 ترك حدود البلاد وأصبح جاسوساً في خدمة مصر.
ويصف ملفه لدى “الشاباك” الشكوك التي أثارها منذ عام 1952 وما بعدها والمحاولات الفاشلة لتتبع ماضيه، حيث بدأت ملاحقته في بداية ذلك العام، بعد أن تقدم للخدمة في الجيش النظامي على الرغم من أنه اجتاز بالطبع أثناء وجوده في الاحتياط لم يتم قبوله في الالتحاق بالجيش النظامي، وكان رد الشاباك “في هذه المرحلة، نعارض التجنيد فهو لم يبلغنا بدينه بعد، وبالتالي نطلب محاولة إجراء تحقيق كامل في ماضيه”.
وفي وثيقة أخرى من العام نفسه، قُدمت الشبهة المركزية لأول مرة ضده حيث تقول الوثيقة: “مظهره كألماني مسيحي وليس يهودي، وعندما كان مخمورا ذات يوم، أظهر صورة تم تصويره فيها بزي القوات الخاصة بالجيش الألماني، وعندما سئل عن هذا، قال إنه في الصورة كان متنكرا” رغم أنه عرف نفسه في إسرائيل إنه كان يهوديا ألمانيا ضمن الذين تم اعتقالهم في معسكرات الهولوكوست.
وقال الشاباك في تحقيقه: “أثار الشبهات أكثر عندما تم تصويره متسكعا بصحبة ثلاثة أشخاص مريبة، فكان قد وصف نفسه بأنه وحيد وإنطوائي ولا يهتم بالظهور مع أفراد المجتمع”، كما ورد في الوثائق أنه “متورط في قضية سرقة ذخيرة من معسكر “جولس”، بالإضافة إلى حادثة أخرى “عثرت فيها الشرطة على متفجرات وذخائر في غرفته أثناء تفتيشها”.
واستمرت محاولات التساؤل والبحث وراءه في عام 1953، وقالت الوثيقة: “لم نتمكن بعد من تحديد ما إذا كان المذكور أعلاه مسيحيا أم يهوديا، من فضلك قم بإجراء تحقيق كامل حول ماضيه وأخبرنا على وجه الخصوص بدينه”.
وجاء في هذه الوثيقة الفرعية، والتي تم تعريفها على أنها “عاجلة وسرية”، طلب الشاباك من السلطات الأخرى في الموساد معرفة من كان أصدقاؤه أثناء تواجده في الجيش الإسرائيلي، لأن الشخص المعني لا يرتبط بأي شخص في مكان إقامته.
وتقول وثيقة أخرى: “يرجى محاولة معرفة تفاصيل حول سلوكه أثناء الدورة العسكرية التي خاضها ليلتحق بصفوف ضباط الجيش الإسرائيلي وخاصة إذا كان معروفا أنه مسيحي أو ما هو معروف عنه”.
وفي يوليو 1953 ، ازداد مستوى الجهد لمعرفة تفاصيل عنه، وكتب رجل يُدعى “تشارلي” في إحدى الوثائق للشاباك: “فورًا. يرجى الإشراف على ما ورد أعلاه أثناء السعي لمعرفة أكبر قدر ممكن من التفاصيل حول ماضيه وخاصة لمعرفة ما إذا كان ما سبق يهوديًا أم مسيحيًا”، وأضاف: “نطلب منك.. زيارة له … للتحقق من شكوكنا أو إرباكها. يرجى معرفة ذلك عند تفتيش الحدود أو قسم الاستقبال في الوكالة اليهودية عندما دخل الشخص المعني إلى البلد ، وما هو حالته في البلد ، والغرض من دخوله وكذلك التفاصيل الشخصية عنه. يرجى النظر إلى فهمك على أنه أمر عاجل”.
ولم يظهر التحقيق أي شيء، وجاء في وثيقة أخرى: “اسمه لا يظهر في سجلات المهاجرين في دائرة مراقبة الحدود، لا يوجد ملف باسمه في قسم الاستيعاب بالوكالة اليهودية”، في عام 1954 ورد تقرير يفيد باختفاءئه دون إبلاغ على الفور بذلك وترك معظم ممتلكاته وملابسه العسكرية”.
وبالعودة إلى الوراء، اتضح أنه غادر البلاد، وعرض خدماته على جهاز المخابرات العامة المصرية مقابل تأشيرة دخول إلى ألمانيا، وذهب إلى القاهرة وقدم معلومات سرية ومهمة للغاية عن الجيش الإسرائيلي.
وكشفت وثيقة أخرى في ملف الشاباك المعلومات التي قدمها، بما في ذلك تفاصيل عن الكتائب العسكرية والقيادات الكبيرة بالجيش الإسرائيلي ومواقع الوحدات والمعدات وعدد السلاح.
وأضافت الوثيقة أن هذه المعلومات صحيحة في معظمها وكانت سرية ووجودها في يد العدو يمنحها ميزة كبيرة وتضر بشكل خطير بأمن الجيش الإسرائيلي وقدرته.
لكن بعد ذلك رفض سوسمان عرض مصر بدخول إسرائيل والتجسس عليها خوفا من القبض عليه، وبعد إقامة قصيرة في القاهرة عاد إلى ألمانيا.
وكشفت تحقيقات الشاباك وفق إحدى الوثائق أن سوسمان كان يعيش في “عسقلان”، كان صديقا لزوجين مختلطين – يهودي ألماني تزوج من ألمانيا المسيحية، وكان يزور منزلهما بانتظام، ويأكل عندهم وعاش في منزلهما كابن وعومل على أنه ابن للزوجين، ولكنه أقام علاقة حب عاطفية وجنسية مع المرأة، ثم عندما شك زوجها فيها عادت المرأة إلى برلين، وهناك حاولت استعادة ممتلكات زوجها الذي تعرض للخيانة منها والذي بقي في إسرائيل، ولكن عندما غادرت المرأة إلى ألمانيا، اشتاق إليها سوسمان، ومن هنا قرر العودة إلى ألمانيا من خلال مصر بعد أن يدلي بالمعلومات السرية عن الجيش الإسرائيلي مقابل تسهيل سفره إلى برلين.
وقالت الوثيقة إن سوسمان قدم لعشيقته جواز سفره المصري الذي أخذه من مصر مقابل المعلومات السرية والقيمة التي منحها للمصريين، وردا على ذلك أبلغت المرأة زوجها الإسرائيلي بما فعله عشيقها ومن هنا اتضح أمره.
وعندما تأكدت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من معلومات الزوجة الخائنة تم التمهيد للطريق لعملية “الحقنة الشرجية” لاعتقال شينفت أو سوسمان، حيث نقل عن مسؤول الموساد شموئيل موريا في وقت لاحق في كتاب يوسي ميلمان وإيتان هابر “الجواسيس”: “اعتقدنا أننا إذا نجحنا سنضع حقنة شرجية في الزيت المغلي لتلقينه درسا وردع للجواسيس الآخرين”.
وجاء في تقرير الشاباك أنه تم الاتفاق على أن يسافر مرة أخرى إلى إسرائيل لجلب الأخبار وفقا لإيجاز قدم إليه، وقامت المخابرات المصرية بتزويده لجواز سفر وكاميرا وحصل على 200 دولار كدفعة أولى، وطلب منه أن يصور كل الأشياء العسكرية، ويقوم بجولة في إسرائيل ويبلغ عن تحركات الجيش.
واعتقل سوسمان عام 1956 بعد هبوطه في مدينة “اللد” وحكم عليه بالسجن سبع سنوات بعد إدانته بالتجسس، وكتبت المحكمة “حصل على ثقة السلطات العسكرية وأهالي البلاد من أجل الوصول إلى الأماكن التي يمكنه فيها الحصول على الكثير من المعلومات السرية ومن ثم نقلها إلى العدو”.
ومع ذلك، اقتنع القاضي بأنه “فعل ذلك في لحظة ضعف، وخفف عقوبته.
وفي عام 1958 تم الكشف عن العلاقة بينه وبين زوجة الرجل الذي كان يعيش معه.
وذكرت صحيفة هآرتس أن “رجل من قوات الأمن الخاصة الألمانية كان ضابطا في الجيش الإسرائيلي تجسس لصالح مصر وسجن وبعد فترة، طلب تقصير عقوبته، واعترض رئيس الشاباك في ذلك الوقت، عاموس مينور. وكتب يقول: “إن محاكمات من هذا النوع تلقى أصداء حتى في الخارج، وفرض العقوبات والأحكام الكاملة بمثابة رادع للجواسيس بالقوة”.
علاوة على ذلك، فإن موقف الشاباك ينص على أن هذا “مثال على أجنبي يدخل البلاد تحت ستار يهودي، ويحاول الاندماج في حياة البلد لغرض التعلم والمعرفة، ويستخدم معرفته من أجل تخريب إسرائيل”.
ثم وصف كيف أن سوسمان بذل جهدًا للتعرف على الجيش الإسرائيلي جيدا، وكيف أن عمله في الوكالة اليهودية ونشاطه في فرع عسقلان كان يهدف أيضا إلى تشتيت الانتباه عن أنشطته الاستخباراتية.
وكان قد أطلق أرشيف الجيش الإسرائيلي بمناسبة مرور 50 عاما على حرب أكتوبر (بالتسمية الإسرائيلية حرب يوم الغفران)، موقعا كبيرا وشاملا عن تلك الحرب، حيث تم رفع السرية عن آلاف الوثائق حول حرب أكتوبر والظروف التي حدثت قبلها وبعدها وثائق خطيرة تكشف سبب حرب 1956 ضد مصر وعلاقة السلاح السوفيتي.