بقلم: بكر أبوبكر
في الرّد على عدد من الأسئلة المكثفة عن الانتفاضة الكبرى عام ١٩٨٧، من إحدى الوكالات، أجبت بالقليل الذي قد لا يوفي الانتفاضة العملاقة حقها، ولكن من الممكن أن نراها في التالي:
اولا- كان الفلسطينيون والثورة الفلسطينية العملاقة يعانون من حصار عالمي. وتخلّي عربي رسمي، ومحاولات هيمنة مستمرة على القرار الفدائي جعلت من المسار السياسي الفلسطيني يحتاج لإسناد. لذا كان أمير الشهداء خليل الوزير أول الرصاص أول الحجارة، عنوان البناء الوطني الداخلي مع قيادات الوطن التي استطاعت أن تفك هذه العزلة والحصار، وتعيد للقضية ألقها بعد أن ضاقت على الثورة ساحات الأنظمة الاحتوائية آنذاك.
ثانيا-الكلُ يعلم أن هناك الكثير من العوامل في فلسطين التي شكلت مناخ الثورة والتمرد ثم الانتفاضة- وستظل تشكل حتى اليوم، وذلك نتيجة احتلال فلسطين والممارسات الاحتلالية الاجرامية المتراكمة والمتواصلة في غزة والضفة والداخل، بلا أي وعي أو تقدير أوتراجع صهيوني. وما كانت عملية دهس اسرائيلي لعدد من العمال الفلسطينيين في جباليا 8/12/1987 الا الشرارة التي كان يحتاجها الأمر ليتفجّر ثورة شعبية عارمة. لاسيما والتأهيل الوطني الشعبي ما بين قيادة الخارج وقيادة الوطن كان قد أنجز، وعبر “القيادة الوطنية الموحدة” لاحقًا.
ثالثا- أسباب الانتفاضة: الإجرام الاسرائيلي المتواصل/ اكتمال تأهيل الكوادر للانطلاق عبر مسيرتها النضالية وتجارب العمل الشعبي في الشبيبة الاجتماعية بما حققته حركة “فتح” أساسًا، والفصائل الوطنية/ الحنق الشعبي والحالة العامة من الغليان وضرورة فتح بوابة الأمل/حالة رفض الاحتلال ورد العدوان بما كان من نكبات ونكسات سابقة منذ العام 1948 واللجوء، والقتل والسلب. وبأسلوب جديد من ابتكار قيادة الثورة الفلسطينية بالداخل والخارج/ ومن الممكن أن نرجعها كرد أيضا على ضم القدس والتهويد، ولفك الضغوط عن قيادة الثورة/استمرار الحواجز والاعتقالات والاعدامات الميدانية بالوطن، وتردي الاوضاع المعيشية كلها من بعض أسباب الانتفاضة.
رابعا- هي انتفاضة حجارة في مقابل الدبابة والمدفع والبندقية الغادرة، وانتفاضة الإيمان والأمل الذي لايموت مقابل اليأس الاحتلالي وتحسس الرأس الدائم. إنها انتفاضة عُراة الصدور مقابل آلة الحرب المدججة بالسلاح والخوف المصيري، وانتفاضة السلام مقابل عقلية الحرب الدائمة والطرد والإحلال. هي انتفاضة انتهجت أسلوبا جديدا متميزًا من المظاهرات الشعبية السلمية ذات الانتشار الواسع جغرافيًا وزمنيًا وشرائحيًا، والتي حمتها الاستراتيجية الواضحة ووحدة البرنامج والقيادة ضمن القيادة الوطنية الموحدة .
وفي متنها تشكلت لجان عمل ثورية في كل مكان لمواجهة المحتل بالحجارة، وقطع الطرق والاطارات المشتعلة …..، ونبذ الادارة العسكرية الاسرائيلية …الخ. بل واستطاعت الانتفاضة في ظل الإضرابات وكل الفعاليات الشعبية أن تحقق الاكتفاء الذاتي، وتنشط في مجال التعليم والزراعة والرعاية لتظهر قوة وعطاء وتكاملية هذا الشعب الذي كان هنا منذ الأزل وسيظل الى الأبد.
خامسا- أهمية الانتفاضة أنها أثبتت تكامل نضالات الشعب الفلسطيني منذ وطأت القدم الصهيونية البلد، وأثبتت قوة الشعب الفلسطيني في وطنه، كما أثبتها في الخارج، رغم الظلم والجبروت. وأبرزت المعالم الواضحة للظلم المستقر وانعدام العدالة بالصوت والصورة مع تفجر ثورة الاعلام.
اعادت الانتفاضة الأضواء على الساحة الرئيسة، أي ساحة الوطن لتقود الثورة والمقاومة الفلسطينية التي أنجزت ببراعة مرحلة إظهار القضية وتحصينها وجعلها عصيّة على الكسر بما حققته من هوية وكيانية وبناء وطني وحدوي شامل عبر منظمة التحرير الفلسطينية، وتكريسها الفكر النضالي وسحب القضية من أدراج الأمم المتحدة والقائها بوجه العالم، الذي منذاك الحين لم يستطع رغم كل المحن أن يغفل عينيه عنها.
لقد حققت الانتفاضة انتصار مسيرة الثورة الفلسطينية التي انطلقت عام 1965م بآلاف العمليات الناجزة عبر العالم كله التي قالت “هنا فلسطين”، فلا الكبار يموتون ولا الصغار ينسون. وجاء وقت ساحة الصراع الرئيس أي في الوطن.
سادسا- القمع الاحتلالي واحد. ومهما اختلفت، ومهما تعددت أشكاله منذ الغزوة الصهيونية فهو لم يتوقف، إنه يتصاعد أحيانا، ولايخفت وإنما يتغير شكله ولكن يظل القتل والاعتقال وهدم البيوت وسرقة الأرض والعنصرية والأبعاد سياسة مستقرة.
القمع الاسرائيلي والإرهاب والسلب منذ شرعها هرتزل و”جابوتنسكي” وعصابته، وعصابات بن غوريون ثم بيغن وشامير، وخليفتهم شارون وصولًا الى نتنياهو وقبله كاهانا ثم بن غفير، سيظل سببًا لانهيار الاحتلال وتدمير قيمه الكاذبة، كما يظل أساسًا لا ينضب للثورة والانتفاضة والمقاومة والتحرير.
سابعا- أما أبرز نتائج الانتفاضة باعتقادي -وعود على بدء- أنها أثبتت عظمة هذا الشعب. وأثبتت قدرته على الابداع. واستدلال طرق تمرده وثورته. واثبتت تكامل القيادة بالداخل والخارج. وحققت الالتفاف حول التراب الوطني من جهة، وحول الوطن المعنوي ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية وقائدها الفذ الشهيد الخالد ياسر عرفات.
وأثبتت هذه الانتفاضة العظيمة تجذر الهوية الوطنية ضمن حضارتنا العربية الإسلامية-المسيحية، كما أثبتت استقلالية الارادة الفلسطينية وقدرتها على الانجاز بعيدا عن المحاور العربية آنذاك، وبعيدا عن ضغوطات الانظمة المنسحقة تحت أقدام المستعمر.
إنها انتفاضة الأمل والمستقبل والإبهار الذي انتظره العالم وإن لم يتوقعه. ثم أصبحت قدوته ونموذجه الثوري الأبرز عالميًا، تمامًا كما جاءت انطلاقة الثورة الفلسطينية وحركة “فتح” عام 1965 لتبهر العالم كله، وتلقي حجرًا في بئر الصمت العربية. فتألقت فلسطين، وأصبحت عصية على النسيان. وكتبت في سفر الشعوب الحرة أنها آجلًا أوعاجلًا مقبلة بإذن الله تعالى على التحرير والنصر.