على نحوٍ جازمٍ لا يقبل التأويل، يستخلص باحثون ومحللون إسرائيليون أن تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية كان بمثابة محصّلة منطقية للنتائج التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، والتي من أبرز نتائجها أنها أخرجت إلى السطح تياراتٍ عميقةً في المجتمعين الديني – القومي والحريدي، بالإمكان تصنيفها أصولية، سواء من خلال بعض خصائص الأصولية أو كلها.
وغالبًا ما يركّز هؤلاء على الخصائص الآتية للأصولية الدينيّة عمومًا: التشديد على التفسير الحرفيّ للنص الدينيّ، والطاعة غير المشروطة لأوامر الله، ورفض التعدّدية الدينية، والتصوّر التبسيطي غير النقدي بتاتًا لمفهوم “الحقيقة الدينية” المُطلق، وتصوّر منظومة القانون أو الإيمان على أنها أبديّة لا تتغيّر، وتتطلّع إلى العودة إلى التديّن الأصلي الذي لا يتأثر بأي حداثة، ورغبة في توسيع نفاذ “الحقيقة الدينية” كي تشمل المجتمع بأسره.
لا يسع المجال للنمذجة على جميع الخصائص التي تسم الأصولية الدينية اليهودية التي تتصدّر المشهد الإسرائيلي حاليا، وتمارس حقّها في الدفع بالسياسات التي ينتهجها اليمين المتطرّف، سيما في المحور المتعلق بالاحتلال في أراضي 1967 والقضية الفلسطينية عامة. ولذا ستشير هذه المقالة من بينها تحديدًا إلى الخصيصة المرتبطة بالعلاقة مع الحاخامين وفتاواهم، وهي علاقة شهدت منذ نحو عقدين تطوّرين يعتبران الأبرز: تسيّد حاخامين أصوليين بكل ما تحتوي عليه الأصولية من الخصائص السالفة المذكورة. ووجود فئات متديّنة تعتبر أن طاعة الحاخامين لا تعلو فوقها أي طاعة، بما في ذلك، مثلًا، طاعة القادة العسكريين.
وتحت وطأة هذين التطوّرين وغيرهما، تقلصت في الأعوام الأخيرة، بشكل حادّ، ما تسميه الأدبيات الإسرائيلية “حرّية عمل الجيش الإسرائيلي في مقابل المستوطنين”. ويُعزى هذا، من بين أمور أخرى، إلى ازدياد نسبة مُعتمري الكيبا (القبّعة الدينية اليهودية) والمستوطنين العاملين في وحدات الجيش، ولا سيما المنتشرة في الضفة الغربية بشكل دائم أو مؤقت (مثل لواء المشاة)، بالإضافة إلى القيادات المُكلفة بـ”حفظ النظام” في الضفة، بما في ذلك الإدارة المدنية. وفي أحيانٍ كثيرة، يظهر أن ولاء هؤلاء للقيادة العسكرية جزئي لا أكثر، وفي هذا يكمن أيضًا أحد عوامل انتشار البؤر الاستيطانية العشوائية وصعوبة إخلائها.
ليس هذا الأمر جديدًا في تاريخ الديانة اليهودية، فمما يجري التداول به في هذا الصدد أن الموروث الدينيّ اليهوديّ صنّف تلامذة الحاخامين اليهود إلى عدة أنواع، في مقدّمتها النوع الذي يُصنّف بأنه إسفنجة والنوع المقابل الذي يُصنّف بأنه مصفاة. وبموجب ذلك، يمتصّ الطالب الذي يصنّف كإسفنجة الباطل أيضًا، بينما على النقيض منه يُعرّف الطالب المصنّف كمصفاة بأنه “الذي لديه القدرة على انتقاء ما يُسمع واستيضاحه، وإدراك الحقيقة من الباطل”. ببساطة، لا يتمتّع الطالب المثاليّ بحسّ متطوّر في النقد فحسب، بل أيضًا يفهم أن الحقيقة والباطل مختلطان. والأمر العميق في هذا، مثلما تدّعي إحدى الباحثات في شؤون الديانة اليهودية، أن الباطل قد يكون كامنًا فيما يقوله حاخامون أيضًا، وعلى الطلاب المنوطة بهم مسؤولية تطوير الشرائع الشفوية المتضمّنة في فتاوى الحاخامين وتفسيرها أن يطوّروا برأيها عمودًا فقريًا متينًا لمعرفة كيفية التمييز بين الحقيقة والباطل.
عند هذا الحدّ، لا بدّ من تأكيد أن الجرائم الإسرائيلية في أراضي 1967 التي يرتكبها المستوطنون، والمغلفة بفتاوى حاخامين، هي استمرار للجرائم القديمة، نظرًا إلى أن “مستنقع الاحتلال يخلع شكلًا ويرتدي آخر. فهو هنا منذ أعوام طويلة، ونحن غارقون فيه إلى درجةٍ أصبح من الصعب معها أن نرى التغييرات الحاصلة فيه”!، على حدّ ما كتب أستاذ اللسانيات الإسرائيلي، البروفيسور عيدان لاندو، في مقالة نشرها في مدوّنته بعنوان “البربرية الإسرائيلية الحديثة”. ويعود أحد أهم أسباب ذلك إلى واقع أن الجيش والمستوطنين في تلك الأراضي باتوا بمنزلة يد واحدة، في ضوء تطوّرات بنيوية عميقة مرتبطة بالتغيّرات الديمغرافية والتحوّلات الاجتماعية.