أثناء عودتي يوم الجمعة الماضي من زيارتي المهمة والمثيرة إلى قطاع غزة، عقدت العزم على الكتابة عما شاهدته هناك من صمود وإصرار على الحياة والمعاناة الشديدة من الحصار والفقر والبطالة، لدرجة أن موجة الإحباط والتشاؤم وفقدان الأفق والأمل بالمستقبل بدت عالية أكثر من سابقاتها، وهذا بحكم تجمع عناصر عدة للأزمة في وقت واحد: تأخر صرف المنحة القطرية، وتأخر صرف رواتب الموظفين، وتفاقم أزمة الكهرباء، وموجة الحر الشديد، وفقدان الأمل بالمستقبل، بما في ذلك باجتماع القاهرة، الذي حسمت أمري بالكتابة مرة أخرى عنه، وليس عن زيارتي؛ لأنه على الرغم من انخفاض سقف التوقعات حوله فهو بحاجة إلى المزيد من التفكير والبحث والتحليل.
كما هو معروف أن الرئيس محمود عباس هو صاحب الدعوة التي أطلقت في ذروة ملحمة مخيم جنين الجديدة، وما أثارته من اهتمام وردود أفعال، أما المصريون فرحبوا بأن تكون القاهرة مقر الاجتماع ورعايته فقط، وهم وزعوا دعوات الرئيس، وهذا يختلف عن السابق حين كانت المبادرة للاجتماع مصرية، وتقوم القاهرة بتوجيه الدعوات والتحضير للاجتماع لضمان نجاحه، خصوصًا من خلال الحث على التوصل إلى اتفاق ثنائي فتحاوي حمساوي يجري دائمًا تسويقه على المشاركين الآخرين من الفصائل الأخرى، لدرجة أن المرحوم أحمد جبريل قال (وفي رواية أخرى كتب) عند توقيعه على اتفاق القاهرة أيار 2011 “شاهد ما شافش حاجة”.
اجتماع فصائلي فقط ليوم واحد
اجتماع القاهرة وفق الدعوة بلا جدول أعمال، وسيكون ليوم واحد، وهذا أمر جديد؛ إذ كانت الاجتماعات السابقة تستمر على الأقل يومين وأحيانًا وصلت إلى تسعة وعشرة أيام، البعض يُفسر ذلك بأن الأمر لا يحتمل حوارات واتفاقات جديدة، مع أن هناك تطورات نوعية حاسمة تحتاج إلى حوار جاد وعميق، أهمها برنامج حكومة الضم والحسم الإسرائيلية الكهانية، والأزمة الداخلية الإسرائيلية وتداعياتها، والتغييرات في الإقليم والعالم. والجديد أيضًا أن الرئيس صاحب الدعوة سيحضر الاجتماع هذه المرة، ولكن كما أفاد مصدر مطلع بأنه سيلقي خطابه ويغادر.
تغييب المستقلين
من الأشياء الجديدة أن الدعوة مقتصرة هذه المرة على الفصائل من دون مشاركة من المستقلين، مع أن الحاجة ماسة لتوسيع المشاركين ليشارك ممثلون عن المرأة والشباب والفاعلين والحراكات والقوائم الانتخابية والشخصيات الاعتبارية المميزة من مختلف التجمعات داخل فلسطين وخارجها، وهذا – أي استبعاد المستقلين – يتجاوز تقليدًا مكرسًا في منظمة التحرير منذ تأسيسها؛ حيث أسسها المستقلون، وعندما دخلت إليها الفصائل وقادتها أفردت مكانًا مميزًا للمستقلين الذين حصلوا على تمثيل بنسبة الثلث في اللجنة التنفيذية، وتمثيل كبير في مختلف مؤسسات المنظمة، وهنا لا نتحدث عن فاعلية وتأثير مشاركة المستقلين، وكيفية اختيارهم، فهذا يتفاوت من مرحلة إلى أخرى، ومن شخصيات مستقلة إلى أخرى، ويختلف عن هل هناك معايير موضوعية أم لا؛ حيث في الغالب يتم اختيار المستقلين وفق نظام المحاصصة، وبما يناسب حاجة القيادة السياسية التي تختار معظمهم والفصائل التي تختار البقية؛ أي يغلب عليهم أهل الولاء والثقة، ولكن لا يمكن نسيان دور مستقلين مثل: شفيق الحوت، وأحمد صدقي الدجاني، وإدوارد سعيد، ومحمود درويش، وإبراهيم أبو لغد، وعصام عبد الهادي، وعبد المحسن القطّان.
اجتماع مثل سابقيه، وربما أسوأ
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا عقد الاجتماع ما دامت المقدمات والمؤشرات لا تبشر بأنه سيحمل جديدًا، بل سيعيد إنتاج الحوارات والاتفاقات السابقة التي انتهت إلى الفشل، وربما بشكل أسوأ؟
هذا سؤال صعب، ولا أزعم أن لدي إجابة شافية وافية عنه، ولكن اجتهادي أن الرئيس والقيادة الرسمية يتعرضان في هذه المرحلة لضغوط داخلية وخارجية كبيرة لتحقيق أهداف متناقضة عدة، منها ما يطالب بتغيير المسار والسلطة وتبني برنامج وطني سياسي كفاحي، ومنها ما يهدف إلى بقاء السلطة كما هي، ومنها ما يسعى إلى تغييرها نحو الأسوأ، لدرجة أصبح الحديث عن انهيار السلطة وإفلاسها المالي وعن ضرورة حلها ليس من أوساط شعبية أو المعارضين أو الخصوم أو الأعداء فقط، وإنما يتردد على لسان قادة السلطة ومناصريها أيضًا، يضاف إلى ذلك صدور دعوات في إسرائيل ومن داخل الحكومة لحل السلطة، ودعوات أخرى من داخل الحكومة الكهانية أيضًا بضرورة التزام السلطة بشروط إسرائيلية، إذا التزمت بها السلطة تتحول من سلطة وكيلة إلى سلطة عميلة للاحتلال، وهناك فرق بين الأمرين مع بؤس كليهما.
إذًا، السلطة بحاجة إلى ضمان بقائها، وهذا هو الهدف المركزي من الاجتماع، وهي لا تريد التحول إلى سلطة عميلة وتجديد شرعيتها الفلسطينية وتقوية نفسها عبر التلويح بالوحدة الفلسطينية في وجه الحكومة الإسرائيلية وشروطها لتقوية السلطة، كما تريد تقديم أوراق اعتماد جديدة للمجتمع الدولي والأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، وتحديدًا الإدارة الأميركية المهتمة ببقاء السلطة واستقرارها ودعمها في مواجهة معارضيها الداخليين والخارجيين، ولذلك لديها خطة لفرض سيطرتها على المدن، خصوصًا جنين ومخيمها؛ لأنها تخشى على نفسها من الانهيار إذا استمرت الاعتداءات والاقتحامات والاغتيالات الإسرائيلية، بما في ذلك في المدن الفلسطينية المفترض أنها تحت سيطرة السلطة، وحالة المقاومة الخارجة على السلطة، خصوصًا في مخيم جنين.
الكل في مأزق
يزيد من دوافع الرئيس للدعوة إلى الاجتماع أنه من جهة يدرك أن لا عملية سياسية ولا مفاوضات على الأبواب ولا في الأفق القريب، وهمه بقاء السلطة لا أكثر، ومن جهة أخرى يعرف أن الفصائل المعارضة، وخصوصًا حركة حماس في مأزق كبير داخلي وخارجي، وبالتالي هناك أمل بأن تلتحق بقيادته أو تبدي بعض المرونة؛ لأنها تخشى إذا رفضت الدعوة للاجتماع أن يقود هذا إلى تحميلها مسؤولية عدم إنجاز الوحدة وتصعيد داخلي فلسطيني يوفر غطاء لعدوان إسرائيلي واسع على قطاع غزة، لذلك أرسل الرئيس رسائل واضحة بعد الدعوة إلى الاجتماع بأنه ليس بوارد تغيير مساره، والآخرون مطلوب منهم ذلك، ويدل على ذلك زيارته إلى جنين ومخيمها، وما قاله أثناءها عن السلطة الواحدة وعن قطع اليد من جذورها التي تهدد الأمن والوحدة، وما قامت به الأجهزة الأمنية قبل الزيارة وبعدها من اعتقالات لمقاومين، والشروع في تنفيذ خطة لاستعادة هيبة السلطة في جنين وبقية المناطق، وما صرح به عزام الأحمد بأن هدف اجتماع القاهرة تشكيل حكومة وحدة وطنية تلتزم بمنظمة التحرير، وهذا يعني الشرعية الدولية بكل مكوناتها والتزاماتها والاتفاقيات التي عقدتها أو ستعقدها.
لا أعتقد أن من السهل أو الممكن أن يرضا الرئيس بغير ذلك؛ لأنه يخشى من ردة فعل حكومة نتنياهو أكثر ما يخشى من ردة فعل الفصائل، فنتنياهو سيستغل غضب إدارة بايدن على أي خطوة رسمية فلسطينية تقترب فيها القيادة الرسمية من الفصائل الأخرى التي تطرح خيار المقاومة للتصدي للعدوان بكل أشكاله، بما في ذلك السعي إلى تغيير السلطة وحلها إذا لم تقبل.
تباين في موقف الفصائل من الاجتماع
نجد تنوعًا كبيرًا في موقف الفصائل الأخرى وداخلها من الاجتماع بين من يرى عدم وجود أي فائدة من المشاركة في اجتماع القاهرة، الذي سيعطي الرئيس الشرعية من دون الحصول على شيء، لدرجة أن هناك أصواتًا في الفصائل المشاركة دعت إلى مقاطعة الاجتماع، وضمت صوتها إلى أصوات حراك وشخصيات ذهبت في الاتجاه نفسه، وطالبت بالتخلص من أوسلو وزمرته أولًا، وتنفيذ القرارات السابقة الصادرة عن المجلسين المركزي والوطني بخصوص العلاقة مع الاحتلال بوصفها شروطًا للمشاركة في الاجتماع، ورفضت الدعوات إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تحت الاحتلال، ودعت إلى حل السلطة والتركيز على الصمود والمقاومة .
وهددت حركة الجهاد الإسلامي على لسان أمينها العام زياد النخالة بمقاطعة الاجتماع إذا لم يتم إطلاق سراح المعتقلين، بينما ترى حركة حماس على لسان خليل الحية أن الاجتماع فرصة كبيرة، مركزًا على ضرورة تشكيل مجلس وطني بالانتخاب أو بالتوافق الوطني، وبعد ذلك يتم تشكيل حكومة وحدة وطنية؛ أي تضمن حماس تحقيق مكاسب أخرى من دون المساس بسلطتها الانفرادية.
وهناك في المعارضة من يرى أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني وفق ما كان متفقًا عليه، ومن يرى أن الانتخابات فقط للمجلس الوطني داخل فلسطين وخارجها، بما في ذلك في داخل أراضي 48، وأن هذا هو الحل والمدخل للخروج من المأزق الراهن.
وعندما يقال لأصحاب هذه الفكرة إن هذه دعوة خيالية غير واقعية يردون ردًا خياليا أكثر وغير جدي بأن الانتخابات يمكن أن تُجرى إلكترونيًا، وكأنها مسألة فنية وليست سياسية، مع العلم أن إسرائيل تدخلت إلكترونيًا وأثرت في انتخابات ثلاثين دولة مستقلة وذات سيادة كما أشارت تقارير لها مصداقية، فكيف في انتخابات تجري في حديقتها الخلفية.
إن انتخابات للمجلس الوطني بحاجة إلى نضال فلسطيني شاق وطويل، وتغيير في موازين القوى، وفي البيئة العربية والإقليمية والدولية.
غاز غزة ومشاريع سيناء ومطار العريش
مع ذلك، هناك ما يجب أن يؤخذ بالحسبان ونحن نناقش اجتماع القاهرة، وهو غاز غزة ونفطها، الذي شُرع في خطوات على طريق استخراجه بتوقيع اتفاقات بمشاركة مصر والسلطة وإسرائيل، ولا بد من أن تكتمل الموافقات بأن تكون حصة لسلطة الأمر الواقع في غزة، وإلا ستهدم المعبد على من فيه ،كما أرسلت رسائل بهذا المعنى إلى من يعنيه الأمر.
وهناك المشاريع الكبيرة المنتظرة في سيناء لحل أزمة قطاع غزة المتفاقمة، وما يرافقها من استخدام مطار وميناء العريش، والأمر بات جاهزًا للتنفيذ بانتظار القرار السياسي في الوقت المناسب.
إدارة الانقسام
في ضوء ذلك، هناك هامش واحتمال للاتفاق في اجتماع القاهرة أو بعد ذلك على نوع من إدارة الانقسام، يمكن أن يأخذ أو لا يأخذ شكل تشكيل حكومة تبقي الانقسام على حاله، ولكن تدير بعض الأمور والمصالح المشتركة، خصوصًا النفط والغاز.
أزمة إسرائيل وتداعياتها حاضرة
يجب عدم إغفال تأثير الأزمة الداخلية العاصفة التي تشهدها إسرائيل، والتي تجعلها مشغولة بأمورها الداخلية، وليست جاهزة لإصدار قرارات تؤدي إلى تغييرات كبيرة، خصوصًا علاقتها بغزة التي أرادت الحكومات السابقة أن تبقيها بين الموت والحياة، بينما تلك المشاريع الكبيرة في سيناء والغاز من البحر إذا نفذت ستجعلها تعيش في بحبوحة؛ وهذا ما يجعل إسرائيل تريد حتى توافق مقابلًا لذلك، مثل هدنة طويلة الأمد. فهل تقبل حماس وبقية الفصائل؟
إستراتيجية واحدة هي المفتاح
هناك من يبرر تفاؤله بالاجتماع بأن دعوة الرئيس تضمنت ضرورة الاتفاق على إستراتيجية واحدة في مواجهة الحكومة الإسرائيلية، ويقفز هؤلاء المتفائلون عن أن الإستراتيجيات المعتمدة من مختلف الأطراف التي ستجتمع في القاهرة بعيدة جدًا عن بعضها، وإذا اتفقوا على إستراتيجية واحدة، فهذا سيفتح كل الأبواب المغلقة، وينهي الانقسام، ويعيد بناء المنظمة، ويغير السلطة، ويجعل الانتخابات مكونًا أساسيًا لأي اتفاق.
أكدنا سابقًا ونؤكد حاليًا أن إنهاء الانقسام يمكن من خلال حل الرزمة الشاملة التي تحيي المشروع الوطني وتطبق بالتوازي والتزامن، وأن هذا الحل بحاجة إلى تغيير في موازين القوى ومواقف القوى وإلى ضغط سياسي وشعبي قوي، وفي الوقت الذي يجب العمل على ذلك يجب عدم تفويت أي فرصة لتقليل آثار الانقسام ومنع تعميقه، من خلال التنسيق على بعض القضايا، أو الوحدة الميدانية، أو العمل من أسفل إلى أعلى، والتعاون في مجالات ومستويات مختلفة، بما فيها إجراء انتخابات محلية وطلابية وغيرها، إلى أن تحين لحظة الوحدة التي من دونها لا يمكن تحقيق الانتصار. فلنتعلم من العالم وكل الدول التي تتعاون في ملفات وتتحارب في ملفات أخرى.
تفويت الفرصة وإضاعة وقت ثمين
أضاعت فصائل المقاومة، خصوصًا “حماس”، وقتًا ثمينًا بدأ منذ قرار إلغاء الانتخابات العام 2021، مرورًا بهبة الكرامة وسيف القدس في أيار من العام نفسه وقوة الدفع التي خلقتها وحتى الآن؛ حيث كان عليها أن تقدم نموذجًا وبديلًا سياسيًا تشاركيًا ديمقراطيًا مؤسسيًا مقاومًا، ليس من المنظمة ولا مؤسساتها، وإنما من القيادة ونهجها وسياساتها؛ حيث تشكل جبهة واسعة فاعلة وطنية لا تسعى فيها “حماس” إلى الهيمنة والاحتواء، وإنما للشراكة، وتضع الجميع، بمن فيهم القيادة الرسمية، أمام الالتحاق أو العزلة أو الانهيار.
ولكنها لم تفعل ذلك، واكتفت بتوجيه اللوم للفصائل الأخرى التي لم تتجاوب، وكأن الأصغر وليس الأكبر والأقوى هو من يتحمل المسؤولية الكبرى، وحاصرتها أزماتها وخلافاتها الداخلية والخارجية وتحالفاتها المتعارضة، ووضعتها مرة أخرى أمام سؤال: هل يمكن الجمع بين السلطة والمقاومة المسلحة في الوضع الفلسطيني بخصائصه وتشابكاته، أم أن هذا الجمع يقود بقصد أو من دون قصد إلى تغليب مصالح السلطة على حاجات المقاومة؟