إسرائيل اليوم – بقلم يؤاف ليمور العملية التي حدثت على مدخل المنطقة الصناعية في “أرئيل” تروي التحدي الأمني كله. فقد رفعت إلى السطح فضائل إسرائيل ونواقصها إزاء حربها ضد الإرهاب، والحقيقة المؤسفة أن العمليات سترافقنا في المستقبل أيضاً، دون صلة بهوية الحكومة السياسية القائمة في القدس.
رغم الأشهر الصعبة التي تمر على إسرائيل، وعدد عال للعمليات والإصابات قياساً للسنوات السابقة، فإن الجيش و”الشاباك” الإسرائيلي هم أبطال العالم في الحرب ضد الإرهاب. فالربط بين الاستخبارات والتكنولوجيا مع القدرة العملياتية (التي يمكنها أن تكون قوة برية أو صاروخ من الجو) هو ربط مميز في نجاعته ودقته. من يدعي خلاف ذلك لا يفهم الأمر: لا يقيد أحد أيدي أحد. إذا وُجدت معلومة عن عملية فإنه يبذل كل شيء لإحباطها. الجدال على طريقة الإحباط مشروع، لكنه موضوع مهني وليس سياسياً.
ينقسم عالم العمليات إلى إرهاب منظم وإرهاب أفراد. الأول أخطر بكثير، لأن له طريقة، وأيديولوجيا، ومصادر تمويل ووسائل قتال (من العبوات وحتى البنادق). أما الثاني فمحدود جداً لوجود حدود لمدى الضرر الذي يمكن لمخرب فرد أن يتسبب به، خصوصاً حين يكون مزوداً في معظم الحالات بوسائل أقل فتكاً.
استخبارياً، التسلل إلى الإرهاب المنظم سهل نسبياً بسبب كثرة المشاركين والسياقات التي فيه، لكن الصدام به في أحيان كثيرة خطير بسبب السلاح الناري ولأنه ليس للمخربين ما يخسرونه. أما إرهاب الأفراد فأصعب بكثير على الإحباط لأنه يدور في رأس شخص لا يشارك أحداً في أفكاره. في سلسلة خطوات (تكنولوجية – استخبارية في معظمها) نجح “الشاباك” والجيش في تطوير طريقة تقلص إرهاب الأفراد قبل ست سنوات. التحدي اليوم هو تكليفها مع الواقع الحالي، وكما هي الحال دوماً – إغلاق الثغرات الأمنية التي تسمح للمنفذين التسلل عبرها. يحتاج هذا إلى تكثيف القوات والوسائل وأساساً عبر الإرشاد العنيد، الدائم، لكل نقطة مطرفة (جندي، حارس، مواطن) كي يفهم بأن وقف العملية متعلق بأدائه في الزمن الحقيقي.
أما جملة تصريحات السياسيين فمن المجدي تركها جانباً. فهي لن تساهم في شيء في الحرب ضد الإرهاب، بل ومن شأنها أن تصعد الوضع في الميدان. إسرائيل تتصدى للإرهاب قبل قيامها، وسيتطلب منها ذلك في المستقبل أيضاً. من يقول إن لديه حلولاً فورية، يجدر به التوجه إلى عالم الترفيه، فبالسحر والغش يمكنه أن ينجح أكثر.
إضعاف مقصود
من الصعب التقليل من خطورة التحقيق الذي تشرع به الولايات المتحدة في موضوع موت مراسلة “الجزيرة” شيرين أبو عاقلة في أثناء نشاط الجيش الإسرائيلي في جنين في أيار الماضي. صحيح أن الأمريكيين أفادوا بأنه تحقيق فني أطلقته وزارة العدل بعد أن وقع 57 نائباً في الكونغرس على عريضة تدعو الـ اف.بي.اي لعمل ذلك، كما هو متبع في كل حالة يقتل فيها مواطن أمريكي، ولكن يثور شك بأنه تدوير للعيون بحيث يجب التعاطي مع رد فعل الجهات العليا في الإدارة، في البيت الأبيض ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي – التي تدعي بأنها لا تعرف بالتحقيق.
الولايات المتحدة دولة مرتبة. التحقيقات فيها تبلغ بها كما ينبغي، ولا بد، عندما تعنى بمسائل حساسة على نحو خاص تتعلق بحليف كإسرائيل. رئيس الـ اف.بي.اي كريستوفر ري، ليس غراً، ولا بد أنه يعرف معاني التحقيق الذي يقوده. وعلى أي حال، كان واضحاً له ً بأن إسرائيل ستسارع إلى الاحتجاج، من رأس الهرم فدونه.
قبل سنة وقع حدث مشابه. قررت وزارة التجارة الأمريكية فرض عقوبات على شركتي سايبر إسرائيليتين (NSO وكنديرو) بدعوى أنهما باعتا برامج هجومية مست بالأمن القومي الأمريكي. وفي حينه، زعم بأن التحقيق بدأ بقرار محلي وليس بعلم مسؤولي الإدارة، لكن سرعان ما تبين بأنه جزء من سياسة واسعة ومقلقة لتجفيف صناعة السايبر الهجومي الإسرائيلية. صحيح أن الأمريكيين يدعون بأنهم فعلوا هذا كي يدافعوا عن حقوق الإنسان والديمقراطية، لكن كل من تعامل معهم في القضية في السنة الأخيرة – وهذا حصل في كل المستويات – لم ينجح في التملص من الانطباع بأن هذا إضعاف مقصود للقدرة الإسرائيلية بهدف نقل السيطرة في المجال إلى الولايات المتحدة.
الحالة موضع البحث مقلقة من عدة جوانب. الأول هو السابقة: الحليفة الأقرب والأكثر حميمية لإسرائيل تقرر التحقيق في أعمال عملياتية للجيش الإسرائيلي دون أن تسأل ما إذا كان لديها الأدوات والقدرات لعمل ذلك (ليس لها، خصوصاً عندما لا يسمح لها بالتحقيق مع المقاتلين الذين شاركوا في العملية)، وبمجرد التحقيق، فإنها ترخي اللجام لجهات متطرفة ومعادية أكثر بكثير للتصرف بنفس الطريقة، وضمناً فإنها تعرض حرية ضباط الجيش وجنوده للخطر.
الجانب الثاني هو العملياتي. إسرائيل تعمل ضد اعدائها وفقاً لتفكرها دون أن تحتاج إلى إذن من واشنطن. هذا موضوع مبدئي. إذا لم يعمل الجيش أو “الشاباك” والموساد بحرية في “المناطق” دون أن يخشى التقدم إلى المحاكمة، فلن يتمكنوا من العمل مستقبلاً في دمشق وطهران أيضاً. هذا بالضبط ما يحاول تحقيقه أعداء إسرائيل، وتحقيق الإدارة يساعدهم في ذلك.
الجانب الثالث قانوني – تحقيقي. نفذ الجيش الإسرائيلي تحقيقاً دقيقاً للحدث، مع تعاون جزئي فقط من السلطة الفلسطينية. تصرف بشفافة كاملة عندما أعلن في نهاية التحقيق – بخلاف المصلحة الإسرائيلية – أن أبو عاقلة قتلت باحتمالية عالية جراء إطلاق النار من أحد مقاتلي وحدة “دوفدفان” ممن قاتلوا في جنين ضد مسلحين فلسطينيين. لم يعرب الجيش الإسرائيلي عن أسفه على الحادثة، التي حققت فيها أيضاً الشرطة العسكرية المحققة (كما هو متبع في كل حالة وفاة). مع نهاية التحقيقات، رفعت المادة كلها لعناية النائب العسكري الرئيس اللواء يفعت تومر يروشالمي، التي قضت بأنه لم يكن هنا إهمال جنائي، وأن الحدث كله كان في إطار نشاط عملياتي، وبالتأكيد لم يطلق أي مقاتل النار على الصحافية عن قصد.
من يطفئ الحريق؟
كل المعلومات والاستنتاجات عرضت على مندوبي الإدارة، وكان يفترض أن تقنعهم. لكن عدم إقناعهم يثير الاشتباه بأن تحقيق الـ اف.بي.اي ليس مسألة مهنية، بل سياسية. ينبغي لهذا أن يقلق إسرائيل ليس فقط على خلفية تبادل الحكم هنا، بل أيضاً بسبب الضرر المتوقع بجهاز القضاء. فاستقلالية المحكمة العليا وجهاز القضاء كان حتى الآن حاجزاً أساساً في وجه إمكانية تحقيقات وتقديم إسرائيل إلى محكمة دولية – من الإحباطات المركزة، عبر البناء في المستوطنات، وحتى تقييد الحريات الفردية الفلسطينية. إذا كان الانطباع الناشئ هو أن إسرائيل تمس باستقلال القضاء، فستقوم في العالم جملة من المحافل التي سيسرها تحدينا في هذه المسائل وغيرها.
وعليه، فإن على إسرائيل العمل بكل طريق ممكن بهدف إنهاء تحقيق الـ اف.بي.اي بالسرعة الممكنة. وينبغي لهذا أن يتم من خلال تفعل أي علاقة أو مجموعة ضغط محتملة في واشنطن، وأساساً بالحوار الهادئ بين المؤسسات الدبلوماسية والأمنية للدولتين. ولهذا السبب، يجب النظر إلى التعيين المرتقب لوزير الدفاع كي نفهم مدى حيوية أن يشغله شخص متوازن، يكون هناك من يرد على هاتفه في واشنطن وعواصم أخرى في العالم والمنطقة.
نتنياهو، بتجربته، يدرك هذا جيداً: يعلم أن بانتظارنا الكثير من الأزمات من هذا النوع، وسبيل إطفائها كاسات من الماء وليس بمئات اللترات من الوقود.