فنجان قهوة، وعدد من الأسود افترشت أرواحهم عرينهم وسط ياسيمنة العز.. حديث وضحكات بصوت الزئير المتعطش لحب الوطن وعلى جسدهم قطعة السلاح التي أحاطت صدورهم، وأما عن إصبع السبابة، في الخفاء يسجل بطلقات بنادقهم حكاية شهداء سيروون دماءهم لتراب أحبوه فاحتضنهم مبكراً.
أم عدي العزيزي والدة الشهيد أبو صالح من حي الياسمينة بمدينة نابلس، والتي تحدثت مع “أمد للإعلام”، عن محطات في حياة مؤسس عرين الأسود محمد الملقب بأبو صالح.
محمد الذي أسمته والدته على اسم خاله الشهيد وهو الوسط في أخوته الخمسة أكبرهم شاب وفتاة وأصغرهم مثلهم، ترعرع في كنف حارة الياسمينة، حنون طيب ولا يعرف للحقد طريق، هكذا وصفته والدته.
ما قبل الاغتيال ليس كما بعده..
تقول أم عدي: كنت أعلم بما يفعله أبو صالح، في البداية رفضت لأنني أم تخاف على ابنها فلذة كبدها، وخاصة أنني متعلقة جداً في محمد وروحي معلقة بروحه، ولكنه أقنعني بعد ذلك، أنّ مايفعله واجب ديني ووطني عليه وهو يقارع ببندقيته أجراس ذلك المحتل الظالم، الذي سرق الأرض وقتل وارتكب الجرائم بحقنا”.
وأوضحت، أنا أؤمن بالموت وأعرف تماماً أنه حق، ولكنني أم وحاولت إبعاد أبو صالح عن هذا الطريق، رغم أنه بداخلي قناعة بأنّ هذا محتل ونحن هنا لنحاربه.
وشددت، نحن لا نقبل العيش بالذل والإهانة تحت هذا المحتل، ونراه يرتكب الجرائم بحقنا ويتسبيح المسجد الأقصى، والحواجز التي يفرضها علينا في المدن، والمداهمات للمنازل واعتقال الشباب والاقتحامات التي ينفذها، ومصادرته لأراضينا لبناء المستوطنات، هذا كله لن نقبله.
وأضافت، اقتنعت بعد فترة بما يقدمه ويفعله أبو صالح، وكنت أساعده في الكثير من الأمور، ويأخذ مشورتي أيضاً ويحدثني عن رفاقه وماذا يفعلون، وحينما يجتمعون في المنزل، أتحدث مع الشباب وأطمئن عليهم.
ونوهت، تأثر العزيزي باغتيال الشهداء أدهم مبروكة “الشيشاني”، ومحمد الدخيل، وأشرف مبسلط، على يد قوة خاصة من جيش الاحتلال في حي المخفية بمدينة نابلس بشهر مارس الماضي.
محطات قتالية في حارة الياسمينة..
في الساعة الأولى من فجر الـ24 من شهر يوليو لعام 2022، اكتشف فدائيون فلسطينيون قوة إسرائيلية خاصة، تسللت إلى حارة الياسمينة في مدينة نابلس بالضفة الغربية المحتلة.
خيّم الحزن على حارة الياسمينة في تلك الليلة، لية اغتيال العزيزي وصبح مؤسسا “عرين الأسود”، ليلة كان صداها الرصاص وكتب حكايتها دم الشهداء، الذين سطروا حكاية عزهم ببنادقهم والبارودة تلك الوصية التي أوصى بها الشهداء للشعب الفلسطيني بأن لا يتركوها ويستمروا في مقارعة الاحتلال من خلالها.
طوق عسكرية من جيبات الاحتلال وعشرات الجنود، اقتحموا حي الياسمينة، بعد ورود معلومات بحسب ما صرحه الجيش عن وجود العزيزي وصبح في المنزل.
محاصرة المنزل كانت البداية، انتهت بجريمة ارتكبتها قوات الاحتلال بحق شبان في عمر الزهور، وبين سطور صفحة حياة العزيزي وصبح التي طوتها رصاصات الغدر الإسرائيلية، سجلت ببنادقهم ورصاصاتها اشتباك عنيف سطروه على جدران منزلهم في البلدة القديمة بنابلس.
أم عدي تقول: سمعنا صوت إطلاق نار ونحن في المنزل، حينها جاء أبو صالح وطلب منا المكوث في منطقة آمنة، اشتبك العزيزي وصبح مع قوة خاصة من جيش الاحتلال، وحينها رأى الخطر سيصل إلينا فطلب منا مغادرة المنزل، وغادرناه بعد إصراره علينا بذلك.
وتكمل حديثها، أبو صالح كان دائما يقول أنا أنتظرهم يأتون إلى رجلي، وعندما جاءوا اختار الاشتباك معهم وعدم الاستسلام، وبعد خروجنا من المنزل سمعنا صوت إطلاق نار متبادل.
ونوهت، “لم يكن لدي شك باستشهاده، وطكنت متوقعة أن يخرج ويعود مرة أخرى إلى المنزل، ولكن صوت الانفجارات وقصف بالصواريخ والاشتباكات يومها جعلت قلبي ينبض.
واستدركت بالقول في حديثه بعد ساعات على الاقتحام وخروج جيش الاحتلال وقناصته وقواته الخاصة من حي الياسمينة، عدنا إلى المنزل وبدأنا البحث بين الركام والدمار الهائل في المنزل، وبدأت الصعود على درجات المنزل، وسألت عن أبو صالح فقالوا لي أنه مصاب وبخير وتم نقله للعلاج إلى المستشفى ولكنهم كانوا يعلمون أنه مستشهد ولم يقولوا لي”.
وتابعت، صعدت إلى سطح المنزل، وكان هناك جثمان شهيد تم إعدامه في الرأس ولم أعرف أنه عبود صبح، ولكن الشباب هتفوا عندما حملوه وقالو عبود عبود، وحينها عرفت أنه الشهيد عبود صبح.
واستمرت أم عدي بدقات قلبها المتسارعة، وعيونها التي غرقت بالدموع، ولهفتها خلال حديثها بالشوق لابنها الذي ذهب عن هذه الدنيا مبكراً، سالكاً طريق العز والفدائية ليسجل اسمه على جدران الشهامة.
وبعد صمت لثواني، أكملت أم عدي حديثها ، الشباب تحدثوا مع عدي بهمسات وبعضهم طلب مني مغادرة السطح والنزول ألى أسفل، وبلحظة نطقت وقلت لهم “أبو صالح استشهد خلص خدوني عنده”.
في مستشفى رفيديا رثم هناك بالتاريخ المذكور في يوليو الماضي، وعلى سرير الموت بثلاجة الأبطال رقد أبو صالح، وحوله العشرات ممن استطاعوا الوصول إلى قبل المئات الذين لم يحالفهم الحظ، بين صيحات الغضب الشديدة على اغتيال صبح والعزيزي، ونجاه الفدائي إبراهيم النابلسي الذي كان من ضمن قائمة المطلوبين في تلك العملية، ولكنه نجا منها ليكون شهيداً في العملية التالية التي نفذها جيش الاحتلال في نفس الحارة الياسمينية بالبلدة القديمة بتاريخ 9/8/2022.
رسائل حارة..
ووجهت والدة الشهيد أبو صالح عزيزي رسالتها للشعب الفلسطيني، بأن يبقى صامداً ويحارب المحتل، ولا يتنازل عن شبر من أرضه، ولا يقبل الذل والهوان.
وفي رسالتها لأمهات الشهداء قالت أم عدي عبر “أمد”، ابارك لهم عرس أبناءهم، ونحن نفتخر بهم، ونرفع رأسنا بهم، لأنّ فلسطين تحتاج مثل أبناءنا، ونحن في أرض الرباط إلى يوم الدين، رغم فقدانهم الصعب سنبقى صابرين.
وللعالم الصامت أكدت أم عدي في رسالتها، نحن ندافع عن الكرامة والوطن، ولن نستسلم أبداً ولا نريدكم أن تقفوا معنا، الله وحده قادر أن ينصرنا على هذا المحتل وعلى كل من يسانده ضدنا.
وفي رسالتها الأخيرة قدمتها أم عدي في حديثها لمقاتلين عرين الأسود، استمروا نحن معكم وندعمكم، وما تفعلوه حق وستنتصرون على هذا المحتل، حتى لو كنتم فئة قليلة، فالنصر حليفكم.
استشهد أبو صالح وعبود والنابلسي والحوح والعموري وأبو لبلدة ولحلوح والكثير من الشباب الفلسطيني الذين حملوا أرواحهم على أكتافهم، وبنادقهم لم تغادر صدورهم، ثابتون على العهد وواعدون الكرامة بأننا لن نقبل الذل ولا الهوان، وسنطارد المحتل في كل مكان لا أن يطاردنا، ففلسطين تستحق، والأقصى له الحق والواجب بأن ندافع عنه وعن تراب هذا الوطن، غادروا بالأسماء فقط وبقيت أرواحهم تلف ليست العقول، بل جدران الشوارع والمنازل، وسط حالة من التأييد الشعبي لكل سلاح موجه للاحتلال الإسرائيلي.