استشهد، فجر يوم الثلاثاء 25 أكتوبر 2022، القيادي البارز في مجموعة عرين الأسود وديع الحوح خلال اشتباك مع قوات الاحتلال (الإسرائيلي) التي تسللت إلى البلدة القديمة في نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة.
ويعتبر وديع الحوح أحد أبرز مؤسسي مجموعة “عرين الأسود” التي باتت تشكل معضلة أمام الاحتلال الإسرائيلي، وهو أسير محرر سجن لدى الاحتلال أكثر من مرة، اعتقل سابقا بتهمة الانتماء لكتائب شهداء الأقصى الذراع العسكرية لحركة فتح.
واعتقل الحوح أيضا لدى الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وهو أحد أبرز وجوه “عرين الأسود” ويتهمه الاحتلال بالتخطيط لعمليات مسلحة، كان ضمنها قتل جندي (إسرائيلي) على أحد الحواجز قبل 10 أيام.
شكل اغتيال الحوح صدمة لدى الشارع الفلسطيني والنابلسي على وجه الخصوص، إلى درجة أن الجماهير التي تجمعت أمام المستشفى رفضت فكرة موته.
كان الحوح يوجه رسائل عبر صفحته على الفيسبوك تدعو للوحدة الوطنية، وعدم التفرقة بين أبناء الشعب الفلسطيني، ويقال إنه “كاتب بيانات العرين”.
الاحتلال وصف الحوح بأنه من أخطر المطلوبين وكان يدير عمليات عرين الأسود، بالإضافة إلى كونه أحد مؤسسي المجموعة النشطة في نابلس.
أنا لن أرثيك ولكن سيكون الثأر قاسيا، طلبتها ونلتها ولنا اللقاء في جنان النعيم، سبقتني يا أخي كنا متفقين مع بعض نروح، لله نزفك شهيدا مقاتلا مجاهدا في صفوف جنود الله، جنود عرين الأسود”.
هذا مما رثى به وديع الحَوَح القائد البارز في مجموعة “عرين الأسود” رفيقه في المقاومة وفي المجموعة نفسها تامر الكيلاني، الذي ارتقى شهيدا باغتيال إسرائيلي فجر الأحد الماضي، ليلحق الحوح به فجر اليوم الثلاثاء، وكأن هناك موعدا بينهما بالرحيل سوية نُفذ بفارق زمني بسيط.
ولم يكن الزمان فقط هو ما جمع الشهيدين الرفيقين الحوح والكيلاني، ولا الوعود بينهما، إنما المكان أيضا، حيث ارتقى وديع الحوح شهيدا في حارة الياسمينة بنابلس أيضا، أحد أهم وأجمل حارات البلدة القديمة السبع، وبالتحديد في حوش العطعوط الحاضن على مدى التاريخ للمقاومين الفلسطينيين، والذي اختاره الراحل ياسر عرفات مهدا لمقاومته الاحتلال أواخر ستينيات القرن الماضي.
وعلى بعد أمتار من استشهاد الكيلاني، ارتقى الحوح ليسطّر مجدا جديدا في قائمة مجموعة عرين الأسود التي وضعها الاحتلال ضمن أهدافه الإستراتيجية “لإنهائها كظاهرة” بعدما اتهمها بالمسؤولية المباشرة عن مقتل الجندي الإسرائيلي عيدو باروخ قبل أسبوعين قرب مستوطنة “شافي شمرون”، وإرسال مسلحين لتنفيذ عمليات فدائية، وإطلاق النار على جنود الاحتلال، والتخطيط الدائم لاستقطاب مقاومين وجمع الأموال لذلك.
صان الوصية وعمل بها
وقبل استشهاده ملأ وديع صبيح الحوح (31 عاما) المكنى بـ”أبو صبيح” رصيده في مقاومة الاحتلال واستهدافه المباشر، فاتخذ من مخبئه في حوش العطعوط حصنا منيعا بعد أن قام “بتفخيخ” المكان وزرع عبوات ناسفة في محيطه ليكون كمينا لكل من يستهدفه والمقاومين.
ولا يدلل ذلك على ما بات يتمتع به الحوح من خبرة عسكرية ومقاومة شرسة فحسب، وإنما على قدرته على احتضان المقاومين، واتخاذه من “جسده ومنزله حصنا لهم”، والوفاء بوعدٍ قطعه على نفسه لرفاقه الشهداء بحماية المقاومين وتشكيل درع لهم.
ثم رفضه، خلال اجتماعه بشخصيات أمنية وسياسية بنابلس، أية عروض بالانضمام للأمن الفلسطيني، والحصول على عفو مستقبلا من الاحتلال، مقابل تخليه عن المقاومة، فكان يرفض ويؤثر الشهادة على كل المناصب.
وتتالت أعمال المقاومة ليذيع صيت العرين يوما بعد آخر، ويسطع معه نجم الحوح الذي هدده الاحتلال مرات عدة، فيرد عليه بأن المقاومة له بالمرصاد، وأن الخبر ما ترى لا ما تسمع.
في قلعة النضال.. ميلاد اليتيم
هناك في حارة الياسمينة في البلدة القديمة بنابلس، ولد وديع الحوح وحيدا من الذكور بين شقيقاته الثلاث، وذاق مرارة الفقد واليتم مبكرا، فرحلت والدته وهو ابن 9 سنوات إثر نوبة صحية مفاجئة، ليكمل مشوار طفولته وحيدا، ويكمل دراسته حتى الصف العاشر ويتحمل مشقة العمل ليحيا كريما بعيشه.
ومثل اليتم، تجرَّع الحوح أيضا مرارة الاعتقال مرتين (في العامين 2011 و2018) وقضى في سجون الاحتلال الإسرائيلي عاما كاملا، وطارده الاحتلال قبل اعتقاله الأخير، وبعد اعتقاله تعرض لتحقيق قاس.
وشكَّل الاعتقال قاعدة صلبة له ليلتحق بركب “عرين الأسود” ويجند بصفوفهم، بل ينفق عليهم من ماله الخاص، حتى “إنه ابتاع لنفسه بندقية على حسابه الشخصي، وكذلك قدَّم لرفاقه”، يقول أحد أقربائه.
وليس مع رفاقه فحسب، بل كانت علاقته طيبة وصادقة مع الجميع لاسيما شقيقاته، يقول محمود عماد زوج شقيقته “لم يترك وديع مناسبة إلا ويتصل مطمئنا على شقيقته وأطفالنا، ويوصيني بهم خيرا”.
ويضيف عماد “حتى أمس وعند الساعة التاسعة مساء اتصل بشقيقته، وكأنه يريد وداعها، لكنها لم تنتبه لرنين الهاتف، ورحل دون أن تسمع صوته”.
وتجاه عائلته لم يقصر الحوح يوما، فشارك بزواج شقيقاته الثلاث دون أن يفكر بالخطبة والزواج كأي شاب آخر، وبعد ضغط كبير مارسته العائلة جهَّز منزله مستعدا للخطبة، لكن بعد استشهاد رفاقه ومطاردة الاحتلال له منذ نحو 4 أشهر، كان يرفض كل العروض ويتحدى الضغوط قائلا “اخترت طريق الشهادة ولن أحيد عنه”.
وفي الآونة الأخيرة، يضيف زوج شقيقته “كان يرفض وبشدة استقبال أحد من أهله في منزله، خشية قصف الاحتلال له”.
ولم يكن محبا للجميع أيضا، بل “كريما خلوقا وشهما، ويهتم برفاقه الشهداء، وكان يرثيهم شخصيا أو يطلب رثاءهم مني”، يقول الشاعر عدنان بلاونة من مدينة نابلس.
يضيف بلاونة “كان الشهيد الحوح يقول لكل من يرحل قبله من رفاقه: كنا متفقين نرحل مع بعضنا”. واشتهر بمقولته للاحتلال “انتهى الكلام، بدأ الفعل باسم الله”.
ويصفه أحد الذين عرفوه من جيرانه بقوله “هو الصلب والعنيد ورأس العرين”، في حين شاع وصف “سيد الرجال” و”قمر آخر” من نابلس يترجل عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي الجانب الإعلامي، لم يقلّ دور وديع الحوح عن عمله العسكري في “عرين الأسود”، بل اتخذ من صفحته الشخصية وسيلة لإيصال صوت “العرين” وبياناته لوسائل الإعلام وكل الفلسطينيين، واتخذ من نشر صور المقاومين بعدتهم وعتادهم العسكري وسيلة أخرى لإرهاب الاحتلال.
ومن هول المشهد، لم يصدق شبان نابلس خبر استشهاد الحوح في البداية، واستنفروا صوب البلدة القديمة، ومن هناك انطلقوا إلى مشفى رفيديا لاسيما أن خبر إصابة وديع جاء متأخرا ولم يكن معلوما مكان إصابته وحتى نبأ استشهاده.
وتحت ضغط كبير من المقاومين المسلحين وبعد إعلان استشهاده، أعيد الحوح لغرفة العمليات وأجريت محاولات عدة لإنعاش قلبه، وظلت كلمة “رجع النبض” الأكثر تداولا، ليأتي الخبر اليقين أن وديع قد رحل فعلا وأن “النزيف كان حادا”، فيزغرد رصاص المقاومين في سماء المدينة ويبلغ صداه بين جبليها عيبال وجرزيم.
وباستشهاد الحوح يرتقي حتى الآن نحو 10 شهداء من “عرين الأسود” على الأقل، آخرهم وديع واثنان آخران من رفاقه اليوم الثلاثاء، وهما حمدي القيِّم ومشعل بغدادي، وفق ما تداولته مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يزال الاحتلال يطلب آخرين، ويضعهم على لائحة استهدافه.