حذر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسينجر من عزلة الولايات المتحدة، حال إخفاقها في تحقيق التوازن بسياستها الخارجية بين مصالحها مع الدول الأجنبية.
وتطرق كيسنجر في حوار مع وكالة “بلومبيرغ” ناقش خلاله حياته ومسيرته المهنية بعد بلوغه 100 عام، إلى عدة قضايا تراوحت بين مخاوفه من أن ينتهي الأمر بالصين إلى صراع عسكري مع تايوان، ومستقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وكذلك الوضع في أوروبا.
تايوان والصين
وقال كيسنجر إنه يعتقد أن صراعاً عسكرياً محتملاً بين الصين وتايوان سيندلع، إذا استمرت التوترات في مسارها الحالي، رغم أنه شدد على أن الحوار سيؤدي إلى خفض التصعيد، وحض على ذلك.
وأضاف عندما سئل عن احتمال أن تغزو الصين تايوان: “فيما يتعلق بالمسار الحالي للعلاقات، أعتقد أن بعض الصراع العسكري محتمل، لكنني أعتقد أيضاً أن المسار الحالي للعلاقات يجب أن يتغير”.
وكالة “بلومبيرغ” رأت أن تصريحات كيسنجر، التي أدلى بها في وقت استعرض فيه مسيرته المهنية بعد وقت قصير من بلوغه الـ 100 عام، “أكثر تشاؤماً” بشأن حالة العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، التي تعهدت دعم تايوان، حال تعرضها لهجوم من جانب الصين.
وقال كيسنجر، إن “الأمر متروك لكل من واشنطن وبكين للتراجع عن المواجهة بينهما”، والتي قال إنها على “قمة الهاوية”، متحدثاً قبل أيام من سفر وزير الخارجية أنتوني بلينكن، إلى بكين.
وسيكون بلينكن أرفع مسؤول أميركي يزور الصين منذ خمس سنوات، ويتطلع البيت الأبيض إلى خفض التوقعات، لكنه قال إنه لن “تكون هناك اختراقات”.
ويحظى كيسنجر، مؤلف العديد من الكتب بما في ذلك “عن الصين”، والذي كُتب قبل عام من تولي الرئيس شي جين بينج السلطة، بمتابعة عن كثب لآرائه حول الجغرافيا السياسية الآسيوية، نظراً لرحلته السرية إلى الصين في عام 1972، ودوره في تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة والصين في عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون.
وبعد كل هذه السنوات، قال كيسنجر إنه “لا يزال متردداً بشأن نتيجة التوترات بين الولايات المتحدة والصين، نظراً لأنهما لم ينخرطا بعد في نوع الحوارات التي اقترحتها”، لكن الشيء الوحيد الذي قال إنه يعرفه على وجه اليقين هو أنه “لا يمكن كسب الحروب بين قوتين عظميين”، أو “لا يمكن الفوز بها إلا بتكاليف غير متناسبة”، وفق تعبيره.
وأردف كيسنجر: “إنه وضع فريد من نوعه، بمعنى أن أكبر تهديد لكل دولة هو تهديد للأخرى، أي أن أكبر تهديد للصين هو أميركا، في تصورهم، وينطبق الشيء نفسه هنا في أميركا”.
التدخل الروسي
وتطرق كيسنجر إلى الغتدخل الروسي لأوكرانيا، قائلاً إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “قد يكافح من أجل التمسك بالسلطة، إذا أجبر الصراع في أوكرانيا، روسيا على التخلي عن العدوان العسكري، وقبول اتفاق سلام مع أوروبا”.
وأضاف: “أحب روسيا التي تعترف بأن علاقاتها مع أوروبا يجب أن تقوم على أساس الاتفاق ونوع من الإجماع، وأعتقد أن هذه الحرب، إذا انتهت بشكل صحيح، قد تجعل ذلك قابلاً للتحقيق”.
ورداً على سؤال حول ما إذا كان بوتين يمكن أن يبقى في السلطة، إذا انتهى التدخل بهذه الشروط، أجاب كيسنجر: “هذا غير محتمل”.
وقال الدبلوماسي المخضرم إنه من المهم أن تخرج أوكرانيا من هذا الصراع كدولة ديمقراطية قوية، ويفضل تجنب “تفكك روسيا أو تحويلها إلى (دولة) عاجزة بشكل مثير للاستياء”، مشيراً إلى أن ذلك يهدد بتأجيج توترات جديدة.
ووصف بوتين بأنه “شخصية من نوع فيودور دوستويفسكي محاطة بالتناقضات والتطلعات التي لا يمكن تحقيقها”، وأنه “كان قادراً على ممارسة السلطة كزعيم واستخدمها بشكل مفرط في ما يتعلق بأوكرانيا”.
وكثيراً ما استقبل بوتين كيسنجر في روسيا خلال فترة حكمه التي استمرت ربع قرن تقريباً في الكرملين، إذ قال في اجتماع عام 2012 إن علاقتهما امتدت إلى منتصف التسعينيات، عندما كان نائب عمدة سان بطرسبرج.
وقال كيسنجر إن بوتين كان وريث النظرة الروسية التقليدية، وشخص نشأ في شوارع لينينجراد (سانت بطرسبرج حالياً) ، حيث مات أكثر من نصف السكان بسبب الجوع خلال الحرب العالمية الثانية، وواجهوا تهديداً مستمراً.
وأضاف كيسنجر أن بوتين “ترجم ذلك إلى عدم رغبته أبداً في أن تكون القوة العسكرية الأوروبية سهلة الوصول إلى سان بطرسبرج والمدن الكبرى مثل موسكو، ورد بشكل قريب من اللاعقلانية، على توسعها”.
وأوضح أنه في حين أن الولايات المتحدة وحلفاءها كانوا محقين في مقاومة الهجوم الروسي على أوكرانيا، إلا أنه “من المهم بشكل متزايد أن تفكر أطراف الصراع في الطريقة التي يريدون بها إنهاءه من خلال الدبلوماسية”.
وتابع أن هناك “خطراً” من أن تهيمن العلاقات العسكرية بين القوى على التفكير الجيوسياسي، وتحول الحرب إلى صراع عالمي من خلال جذب دول مثل الصين.
وقال في هذا الصدد: “ستصبح أوروبا أكثر استقراراً، وسيصبح العالم أكثر استقراراً، عندما تقبل روسيا حقيقة أنها لا تستطيع غزو أوروبا، ولكن يجب أن تظل جزءاً من أوروبا بنوع من الإجماع كما تفعل الدول الأخرى”.
لكنه قال إن روسيا في الوقت الحالي “محطمة لدرجة أنها ترى أنها عامل من عوامل السياسة الدولية في مناطق أخرى، وتصبح موضوعاً للمنافسة الأوروبية بين مختلف الدول”.
بريطانيا وأميركا
ويرى كيسنجر دوراً أقوى لبريطانيا في توجيه العلاقات الأميركية مع الاتحاد الأوروبي من خارج التكتل.
ورداً على سؤال عما إذا كانت بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي في وضع أفضل للمضي قدماً، قال كيسنجر إن “الشراكة الخاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة تعني أنها في وضع أفضل تاريخياً لصقل العلاقات عبر المحيط الأطلسي”.
وأضاف: “من الناحية النفسية، بريطانيا في وضع أفضل، لأنه في كل بنية من العالم يمكن للمرء أن يتخيل ظهورها، وأياً كان ما تفعله أوروبا لبنائها، فإنها تتعاون مع أميركا وتتبع سياسة موازية مع أميركا. بالنسبة للمملكة المتحدة، يعني هذا أنها فرصة عظيمة للعمل كحلقة وصل بين أوروبا الموحدة وأميركا”.
وتختلف آراء كيسنجر عن آراء العديد من منتقدي خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي، الذين يرون إن المملكة المتحدة كانت في وضع أفضل كجسر إلى الولايات المتحدة، عندما كانت عضواً في الاتحاد، وقادرة على التأثير على القرارات الداخلية.
وقال كيسنجر: “مشكلة بريطانيا هي التواصل، أي كيفية التواصل مع أوروبا، وليس كيفية التواصل مع الولايات المتحدة. بالنسبة لبريطانيا، تبين أن الارتباط بأوروبا غير ممكن، لذلك يجب أن يتم ذلك الآن من خلال السياسة”.
الهند وفيتنام
كما ناقش كيسنجر مسألة صعود الهند كقوة عالمية، لافتاً إلى كيفية تداخل المصالح الهندية مع مصالح الولايات المتحدة، إذ قال: “الهند قوة عظمى، وفي العقود المقبلة ستنمو بشكل مماثل للصين”.
وتطرق أيضاً إلى حرب فيتنام السابقة، قائلاً إن “الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد لم يريا طريقة أفضل لإنهاء تورط بلاده في حرب فيتنام. لقد فعلنا أفضل ما في وسعنا”.
معضلة ألمانيا
كما ناقش كيسنجر التحديات التي يواجهها القادة الألمان في وقت تخاطر فيه القوة المتنامية للبلاد بإبعاد شركائها في الاتحاد الأوروبي، قائلاً إن ألمانيا “تواجه معضلة بشأن قوتها الآخذة في الاتساع”.
ورأى كيسنجر، الذي فر من النازيين مع أسرته عندما كان مراهقاً قبل أن يعود إلى ألمانيا كجندي أميركي خلال الحرب العالمية الثانية، أن مركز الثقل السياسي في أوروبا “يتحول بلا هوادة نحو برلين، ما يمثل تحدياً جديداً أمام قيادة البلاد”.
وأشار إلى أن “المأزق الذي تواجهه الدولة الأوروبية ذات الوزن الثقيل هو أفضل السبل لممارسة قوتها المتنامية من دون إبعاد جيرانها”، قائلاً: “يجب أن تكون الدولة الرائدة نموذجاً للاعتدال والحكمة في تحقيق التوازن بين مصالح جميع الدول”.
وتتناول تصريحات كيسنجر، الذي يوصف بأنه عميد السياسة الخارجية الأميركية، معضلة جيوسياسية عصفت بأوروبا منذ القرن الـ 19 بشأن مصير القوة البارزة في القارة.
وأثير ما يسمى بالمسألة الألمانية من جديد في عام 1989، عندما سقط جدار برلين، ما زاد من احتمالية أن تصبح الدولة التي تم توحيدها بطريقة ما، الدولة الأوروبية الأكثر اكتظاظاً بالسكان وأكبر اقتصاد فيها.
لهذا السبب، قال كيسنجر في المقابلة: “لم يكن أي من الزعيمين البريطاني والفرنسي متحمسين لتوحيد ألمانيا، الذي حدث في أكتوبر 1990”.
ونما النفوذ الدولي لألمانيا بعد عام 2005، في عهد أنجيلا ميركل، أول مستشارة نشأت في ألمانيا الشرقية السابقة، والتي أصبحت بعد ذلك الزعيمة الأطول خدمة في الاتحاد الأوروبي، إذ حصلت على جائزة “هنري كيسنجر” من الأكاديمية الأميركية في عام 2020.
ومع ذلك، بدت برلين في كثير من الأحيان قوة عالمية مترددة، وغير راغبة في مضاهاة ثقلها الاقتصادي بقوة سياسية، وهناك دلائل على أن التحفظ قد يتضاءل في عهد المستشار أولاف شولتز، الذي أعلن عن تحول تاريخي في سياسة الدفاع والأمن الألمانية العام الماضي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. وكانت برلين مورداً رئيسيا للأسلحة والمساعدات للحكومة في كييف.
ويرى كيسنجر أوجه تشابه مع الوضع في نهاية القرن الـ19، عندما تنحى المستشار الألماني الأول، أوتو فون بسمارك، ووضع الدولة الموحدة حديثاً على مفترق طرق.
وقال إن “المأساة” التي أدت إلى حربين عالميتين بعد بضعة عقود فقط، تكمن في “فشل ألمانيا في الاعتراف بالتحول الخاص بها”، مضيفاً: “الآن تعيش الموقف ذاته مرة أخرى، ولكن بقيادة تفتقر إلى الخبرة من الحرب أو الشمولية. نحن في هذه اللحظة الآن حيث يجب إنشاء هيكل جديد لأوروبا على أساس هذا الواقع. إنه تحدٍ جديد لهذا الجيل”.