والدة الشهيد نور الدين جرار: سنبقى نقاتل حتى نستعيد جثامين أبنائنا

“الجيش اقتحم المخيم، هبوا يا شباب والحقوني لمقاومته”.. النداء الذي أطلقه الشاب نور الدين جرار، عبر صفحات التواصل الاجتماعي، عندما بدأت قوات الاحتلال باقتحام مخيم جنين، فجر تاريخ 16-8-2021، ليحث رفاقه المقاومين رغم عدم كونه مطلوباً على التصدي لهم، لكنه نور الذي وصفه الجميع “المقاوم البطل والفدائي المقدام”، لم يكن يعلم أنه نداءه الأخير، فقد سارع للمواجهة على مدخل المخيم، ليكون الشهيد الأول في تلك العملية الإسرائيلية التي ارتقى خلالها ثلاثة شهداء آخرين، بينهم رفيقه أمجد إياد العزمي الذي هب لنجدته بعدما أصابه رصاص القناصة، وما زال الاحتلال يحتجز جثامنيهما حتى اليوم.

تتزين جدار منزل عائلة جرار في جنين، بصور ابنها محمد الذي توفي قبل فترة، وشهيدها نور الذي أبصر النور بتاريخ 2-1-2002، وما زالت أسرته تتحفظ بصوره وذكرياته وكل إرث تركه من ملابسه، حتى كتبه وقصاصات الورق الصغيرة التي كان يكتب عليها الأشعار، والملاحظات وحتى حسابات عمله، وفي كل مجلس ولحظة.

لا تتوقف الوالدة الأربعينة سلوى “أم محمد”، عن تعبير محبتها الكبيرة والحديث عن خصاله وحياته، تقول: “الابن البار والحنون، كانت علاقتنا وطيدة، ولم تقتصر على أم وابنها، بل أخت وصديقة وحبيبة أيضاً، وفي كل الأوقات، كنت تلك الأم المساندة والأقرب له في كل أمور حياته”.

في مدينة جنين، نشأ وتربى نور الثاني إخوانه الأربعة الذكور وشقيقته الوحيدة، وسط عائلة متواضعة ومحافظة على العادات والتقاليد، وتقول الوالدة: “تعلم في مدارس المدينة حتى أنهى الصف العاشر، وبإرادته الحرة، قرر التوجه للعمل رغم صغر سنه، فعمل مع والده في منجرته والزراعة، واستقر أخيراً كموزع طلبات على دراجته النارية الخاصة”.

وتضيف: “منذ صغره تميز بالفطنة والذكاء وحب المعرفة، امتلك مهارة تفكيك وتركيب وتعديل أي شيء أمامه بطريقة عبقرية، تدلل على مهارته حتى في إعادة تركيب الاشياء المعقدة، كان محباً للعمل والنشاط والعطاء ويتميز بالرغبة والطموح بتعلم كل شيء في الحياة، فسلوكه وإنجازاته كانت أكبر من سنه”.

منذ استشهاده، تقضي “أم محمد” ساعات طويلة من يومها في غرفة شهيدها نور، تارةً تعيد ترتيبها، وأخرى تعانق صوره وتتحدث إليها، وتتضرع لرب العالمين أن يعيد لها جثمانه، وتقول: “لا تفارقني ذكرياته، فقد كنت معه وأتابعه في كل خطوة يومياً، أفرح بنشاطه وحيويته وهمته العالية وخروجه للعمل الذي يحبه كثيراً، لكن دوما أشعر بالخوف عندما يتأخر بالعودة أو الاتصال، ولا تهدأ نار قلبي حتى أراه في أحضاني، وعندما يعود أعانقه وكأنه غاب عني الدهر”.

لكن في المشهد الأخر من حياة نور، يروي رفاقه، أنه تمتع بروح نضالية ووطنية عالية، ويقسم حياته بين العمل والمشاركة في ساحات المواجهة والكفاح بشكل سري، ينهي عمله ويتسلل تحت جنح الظلام، لينضم لصفوف النشاط في مقارعة الاحتلال، كان من أبطال “الإرباك الليلي”، ويرصد دوماً تحركات الاحتلال وينقلها للمقاومين، ولم يقتصر دوره على ذلك، فمن روح شجاعته و بطولته، تقدم الصفوف دوماً في مواجهة الاحتلال وخوض الاشتباكات.

تتذكر أم محمد الكثير من الصور في اليوم الذي لم تكن تعلم أنه قبل الأخير في حياة فارسها، وتروي: “

في يوم الأحد 15/8/ 2021، الذي يصادف الذكرى السنوية الثالثة لوفاة شقيقه محمد، خرج نور لعمله المعتاد، لكنه عاد بعد نصف ساعة، منهكاً من التعب والمرض، فاعتقدت أنها نوبة حزن بمناسبة الذكرى التي كانت تؤلمه كثيراً، لكن سرعان ما اكتشفت أنها ضربة شمس، فعالجته ولازمته لمتابعة حالته”.

وتقول: “خلال استراحته، فوجئت بقيامه بكتابة منشور على صفحته على الفيس بوك لشقيقه الذي فقدناه في ريعان الشباب قال فيه “عود إلي يا شقيقي ولو لحظة”، لكن لم أتوقع أنها أخر جلسه بيننا ويومه الأخير في العالم”.

وتضيف: “بعدما تحسنت صحته، غادر لقضاء بعض الأمور استقبال صديقة عبد الله الحصري بعد تحرره من السجن (استشهد بعد فترة)، وتقديم العزاء لعدد من رفاقه، وطلبت منه العودة سريعاً، وأخبرته أنني مشتاقة له وأريد الجلوس معه”.

وتكمل: “كان اشتياقي له في ذلك اليوم غريب ومختلف عن الأيام العادية، واستغربت من حالي ومشاعري الجياشة نحوه، وعندما عاد لاحظت أن نظراته غريبة، فقلت له: تأخرت كثيراً، فقد اشتقت لك، ونظر لي نظرة واحدة، وقال لي “يجب أن استحم .. و بعدها تحمم وتعطر ونام على سريره، ولم أعلم أنه نشر على صفحته الخاصة قبل يوم من استشهاده، “أن ألبس أجمل الملابس وأن أتجمل برائحة العطر، وأن تبتسم قد تكون أنت الشهيد التالي”، وفعلاً كان نور الشهيد التالي بعد الشهيد ضياء الصباريني”.

تتذكر أم محمد، أن أخر مرة شاهدت فيها نور كانت الساعة 12 ودقيقتين بعد منتصف الليل، تركته على سريره، واطمأنت على حالته وبعد خروجه من المنزل، فهو بالوضع الطبيعي يعود عند منتصف الليل وينام ويستيقظ كل صباح بهمة ونشاط للذهاب للعمل.

لكن نور، غادر فراشه مسرعاً، تسلل بروية حتى لا تشعر والدته، وأطلق العنان لنفسه ودراجته النارية لتجوب الشوارع، بعدما سمع عن تحركات إسرائيلية حول جنين، وكعادته كما يروي رفاقه، ركز على الرصد والمتابعة حتى اكتشف تسلل الوحدات الخاصة وقوات الاحتلال لأطراف المخيم من جهة حي الزهراء، فأطلق نداء التحذير، ثم تقدم نحو ساحة المعركة عبر دراجته النارية مستلاً بندقيته ليشتبك مع الاحتلال، لكنه لم يتنبه ورفاقه، لقيام الوحدات الخاصة بالتسلل لعمارة مطلة على مداخل المخيم، ونصبها الكمائن، وعندما كان يقاوم عاجله قناص برصاصه الذي أصابه، فوقعاً على الأرض مضرجاً بالدماء، ولم تتمكن طواقم ومركبات الإسعاف من الاقتراب منه، بسبب غزارة الرصاص الإسرائيلي.

بحسب الشهود، فشلت كافة محاولات الوصول لنور، في الوقت الذي وصل فيه الشاب أمجد إياد عزمي لمنطقة قريبة، فخاطر بحياته، وسارع للوصول إليه، وعندما حاول مساعدته وانتشاله، حاصرهما الرصاص وانضم إليه، حتى تمكنت قوات الاحتلال من الوصول إليهما، واحتجزتهما ونقلتهما معها، وأعلنت فيما بعد استشهادهما، بينما ارتقى خلال العملية الشابين صالح عمار ورائد أبو سيف.

وتقول الوالدة “أم محمد”: “تبين فيما بعد، أن البطل أمجد كان نشر على صفحته الخاصة على الفيس بوك، لوحة فيها جنديين وكتب عليها “لا تتخلى عن صديقك حتى لو كلفك الأمر حياتك، وهذا ما حدث معه، عندما شاهد نور يشتبك مع الاحتلال ببندقيته ثم تعرضه للإصابة، ركض بسرعة لإنقاذ حياته”.

ووسط تضارب الأنباء، حول مصير أمجد ونور، وصل خبر إصابته لعائلته، وتقول “أم محمد”: “أيقظني زوجي وقت أذان الفجر من نومي، وأخبرني أن قوات الاحتلال اقتحمت جنين، وسألته عن نور، وعندما علمت بعدم وجوده، شعرت بخوف وقلق على حياته خاصة عندما اتصلت على هاتفه الخلوي ووجدته مغلق”.

وتضيف: “فجأة وصلنا اتصلنا حول إصابة نور، لكني قلت دون وعي ابني استشهد وكررتها 3 مرات، ثم انطلقنا للمشفى، ولم نجده وقال لنا الشهود أنه تعرض للإصابة والاعتقال، لكن الجميع كان يعلم باستشهاده وأخفوا ذلك عني، حتى أعلنت مكبرات الصوت استشهاده ورفاقه”.

وتكمل: “قبل استشهاد نور بشهر ونصف، أحضر ذبيحة عن حاله، لأنه نجا من حادث سير، وقال لي” لا أتمنى موتي بحادث سير، أمنيتي الرحيل شهيداً وبطريقة مختلفة، وبعد استشهاده علمت سر الإجابة والعبارة التي قالها، وفعلاً كانت أمنيته الشهادة والتي لم تخطر على بالي”.

رغم حزنها، قاومت أم محمد ورفضت البكاء على حبيب قلبها، لكن وجعها الكبير احتجاز جثمانه، وتقول: “دخل نور عامه ال20، أسيراً في ثلاجات الاحتلال أو مقابر الأرقام، وما زلنا نناضل للتأكد من استشهاده أولاً ومعرفة مكان احتجازه، وقد ناشدنا كافة الجهات، لكن حتى اللحظة لم تصلنا أي معلومات عنه”.

وتضيف: “الاحتلال يهدف لعقابنا وحرق قلوبنا، لكن نحن صابرون ومتوكلين على الله ليفرج عن جثامين أبنائنا، فما يمارسه الاحتلال جريمة كبيرة في ظل صمت العالم، فأين مؤسسات حقوق الإنسان والمتباكين على العدالة والديمقراطية”.

وتكمل: “حجزت ضريح لنور بجانب شقيقه محمد، وكتبنا عليه قبر محدد للشهيد المحتجز جثمانه نور جرار ، وسنبقى لآخر نفس في حياتنا، نقاتل ونعتصم ونتظاهر حتى نستعيد جثامين أولادنا”.