بقلم: رون تيرا في مقال “الذي يهرب من المناورة، لن ينتصر”، يدعي عوفر شيلح بأن المناورة (أي الهجوم البري، باللغة العسكرية) حيوية لإلحاق الهزيمة بقوات العدو، وزيادة الدمار المرتقب للعدو، وكي لا تكون مسألة “من انتصر” موضع شك. يدعي شيلح بأن استخدام النار بدون مناورة يطيل مدة المواجهة، وهكذا يزيد الضرر لإسرائيل، وأن الإنجاز الدفاعي ليس كافياً في أي معركة. هدف هذا المقال هو فحص ادعاءات شيلح، وفي بعض الحالات طرح ادعاءات مضادة.
الخطة العسكرية الاحتياطية قد توفر أساساً فكرياً ونقطة انطلاق لبناء القوة، ولكنها لن تنفذ حرفياً؛ لأنها تكون بعيدة عن الاتصال وقت وضعها. وعندما نأتي لاستخدام القوة العسكرية، فإن المرحلة الأولى – والحيوية للغاية – هي تحليل السياق الاستراتيجي الخاص الذي يفترض بأن تستخدم فيه القوة. في هذا السياق الخاص، ينبغي التحليل والتعريف بأي شكل تصبح فيه الحياة مختلفة بعد المواجهة عن تلك التي قبلها، ورسم صورة تعرض، من النهاية إلى البداية، كيف سينتج استخدام القوة الحياة المرغوب فيها بعد المواجهة. يجب أن يصاغ الإنجاز المطلوب بتعابير المنتجات الاستراتيجية، بمعنى: المنفعة للمستوى صاحب القرار، وفي عالم تعابيره، وليس في تعابير الحقائق العسكرية (مثل المهام وإلحاق الضرر بالخصم). إضافة إلى ذلك، يجب أن يعرض تناسب معقول بين الإنجازات الاستراتيجية المرتقبة، والأثمان المرتقبة في وصف استخدام القوة (اضطرار تعفى منه الخطة الاحتياطية، على الأقل عملياً). لا نعرف بأي سياق خاص سيكون الجيش الإسرائيلي مطالباً فيه بقتال “حزب الله”، وعليه فمن الصعب البحث بضرورة المناورة. في سياق معين ستكون ضرورية، وفي سياق آخر لا، أو أن ثمنها سيفوق علاوة الإنجاز الذي سينبع منها. وما زلنا نملك التقدير لمنظومتين من المقاييس ذات الصلة بالمواجهة:
1.التغييرات المتحققة في الساحة، والكفيلة بأن تقلل وفق سياقات معينة من المنفعة التي في المناورة.
2.طيف العلاقات المحتملة التي تكون فيها المناورة أقل ضرورة، وتثور الحاجة لاستراتيجية وخطة أخرى.
يشار إلى أن البحث يعنى بمسألة ضرورة الهجوم البري لتحقيق أهداف المواجهة، ولا يعنى بمسألة الدفاع الذي على قيادة المنطقة الشمالية أن توفره ضد تهديد اجتياحات “حزب الله” حتى لو كان الدفاع (الاستراتيجي) ينطوي على أعمال هجومية (تكتيكية) تتجاوز الحدود.
التغير: من “صورة النصر” إلى المنافسة على الدخول إلى المواجهة
الاستراتيجية التي اختارتها إسرائيل للتنفيذ في المعركة ما بين الحروب، أدت إلى تشويش وتأخير مخططات بناء القوة لدى “حزب الله”، لا إلى كبحها. في نهاية المطاف، يحوز “حزب الله” اليوم قدرات نارية نوعية، تفوق تلك التي لدى معظم أعضاء الناتو، ومع مرور الأيام تتعاظم قدرات التنظيم هذه؛ من سلاح صاروخي دقيق، عبر سلاح “غير اعتيادي” دقيق (صواريخ جوالة، طائرات مُسيرة هجومية، صواريخ شاطئ بحر)، وحتى صواريخ أرض – جو. ولم ينتهِ بعد الصراع ضد حيازة “حزب الله” سلاحاً دقيقاً، ولكن لنفترض -لأغراض التحليل- أن إسرائيل في هذه المرحلة المتأخرة لن تغير استراتيجيتها ولن تعرض على التنظيم معضلة تجبره على إعادة النظر في مسألة السلاح الدقيق، فلهذه الفرضية عدة معانٍ: أولاً، قدرات “حزب الله” الجديدة تسمح له بمهاجمة العمق الإسرائيلي وأهدافاً حيوية مدنية وعسكرية، بكل دقة. ثانياً، هذه القدرات تستخدم من عمق لبنان، وربما من ساحات أخرى (مثل عمق سوريا وغرب العراق)، أي من عمق أرض الخصم إلى عمق أرض إسرائيل. وثالثاً، هذه القدرات كفيلة بأن تكون مستخدمة بسرعة نسبية، وهي تحتاج إلى إعدادات وتغييرات طفيفة في الانتشار.
لهذا الواقع الجديد منتج استراتيجي وعملياتي. أما الاستراتيجي، فهو ارتفاع ثمن المواجهة درجة كاملة، ولأول مرة تحتمل ضربة ناجعة لمنظومات حيوية في إسرائيل، يكون ترميمها طويلاً وباهظ الثمن. وعليه، فإن عبء إيجاد صورة مواجهة يوجد في إطارها توافق معقول -بمنظور القيادة السياسية- بين الإنجاز المتوقع وثمنه المتوقع الذي يصبح أكثر تعقيداً. أما عملياتياً، فإن أساس التهديد على إسرائيل يتشكل من منظومات نوعية مقامة في عمق أرض الخصم، وليس من الجبهة.
إن حرب لبنان الثانية تركزت في مرحلتها النهائية؛ فقد بحث الجيش الإسرائيلي عن “صورة نصر” في سلسلة خطوات ذروتها في حملة “تغيير الاتجاه 11” (وصدى صورة التفكير هذه موجود في تحليل عوفر شيلح، الذي يطلب أن تكون مسألة “من انتصر” غير موضع شك)، بينما سعى “حزب الله” للنصر من خلال عدم الهزيمة. ركز الطرفان على محاولة إظهار التفوق في الأيام الأخيرة من الحرب.
غير أن سياقات تعاظم القوى في الطرفين، وبالأساس ارتفاع فاعلية النار لديهما، كفيلة بأن تركز المواجهة التالية على مرحلة البدء تحديداً. يمكن للطرفين أن يوجه للآخر ضربات جوهرية في الساعات الأولى من المواجهة، وكل طرف كفيل بأن يتطلع إلى تشويش عملية الدخول إلى القتال من الطرف الآخر. المنافسة على الدخول في المواجهة قد تخلق إحدى المعاضل الأساسية للمواجهة المستقبلية: من جهة، أن ارتفاع ثمن المواجهة سيصعّب اتخاذ القرار بفتح المواجهة، وبالتأكيد على اتخاذ قرار بفتح حرب كاملة. من جهة أخرى، فإن احتمال تطور منافسة على شكل وشروط الدخول في مواجهة، وكذا الخوف من نشوء منطق “استخدمه وإلا فقدته” لدى “حزب الله”، من شأنهما أن يخلقا دينامية تصعيد. الدينامية الاستراتيجية تسعى إلى لجم الدخول إلى حرب كاملة، بينما الدينامية العملياتية تسعى لتسريعه.
في الواقع المتغير الموصوف، يعاني الجيش البري من أزمة صلة آخذة في الاحتدام. فمن أجل تنفيذ هجوم بري كامل، مطالب بالزمن لغرض التجنيد وجمع القوات النظامية والاحتياط، وعندها مطالب بوحدة الزمن الدنيا الكامنة في تنفيذ واستكمال المناورة. وحدة الزمن هذه لا تقاس بساعات أو بأيام معدودة، بل بأيام كثيرة وربما أسابيع. بخلاف ادعاءات شيلح، قد تخلق المناورة إطار أزمنة دنيا للقتال تجعل تقصيره صعباً.
تقف القوة البرية في خط الحدود، وتكون من هناك مطالبة بأن تناور طولياً عبر الجبهة، بينما المنظومات النوعية للخصم كفيلة بأن تستخدم من عمق عشرات أو مئات الكيلومترات. وبالفعل، في حالة أن استخدم “حزب الله” جبهات أخرى، فإن العمق قد يتضمن عمق سوريا مثلاً. ومن أجل أن يكون ذا صلة، فعلى الجيش البري أن يطور قدرة على التأثير في الزمن (مرحلة الدخول إلى المواجهة) وفي المجال (العمق) الحرجين للقتال، ويضاف إلى ذلك منفعة هامشية تتناسب وعلاوة الإنجاز الذي يعرضه.
من يطلب إخراج شيء من خصمه
لعل السؤال الأول للاستيضاح هو عندما نأتي لفحص السياق الاستراتيجي الخاص: أي طرف يسعى لخلق واقع استراتيجي جديد أكثر راحة له بعد المواجهة؟ سيكون الطرف الساعي لإخراج شيء من خصمه في وضع أساس استراتيجي من الهجوم، بينما قد يسمح الطرف الآخر لنفسه بأن يكون في وضع أساس استراتيجي من الدفاع (يحتمل عمليات هجومية في إطاره). بالتعميم، إن الذي لا يغطي طيف الإمكانات كلها، ستكون كلفة وضع الأساس الاستراتيجي “الدفاع” أدنى، لأن هدفه محدود أكثر: الحفاظ على الواقع الاستراتيجي القائم، وليس تغييره. هذا التمييز نسي لدى الجيش الإسرائيلي لدرجة إهمال الوضع الأساس الاستراتيجي “الدفاع”. في سياق استراتيجي خاص لسعي إسرائيل لخلق واقع استراتيجي في لبنان، يحتمل أن يكون هناك مجال لهجوم بري غايته المساهمة في تحقيق ذاك الوقع الاستراتيجي المحدد المنشود في السياق المعين. وذلك شريطة أن يثبت المخطط بأن الإنجاز المتوقع من المناورة سيغطي على ثمنه المتوقع.
ومع ذلك، في قسم واضح من المواجهات التي شاركت فيها إسرائيل في العقود الثلاثة الأخيرة، لم تسع إسرائيل لإخراج شيء من خصمها، بل إنهاء المواجهة التي علقت فيها في غير صالحها، بسرعة. بعض من هذه المواجهات نبع على الأقل من عملية تصعيد خرجت عن السيطرة أو من سوء التقدير. يمكن في مثل هذه الأوضاع أن يكون المعقول لإسرائيل أكثر اختيار الوضع الأساس الاستراتيجي “الدفاع”، واستخدام قوتها بشكل يؤدي إلى إنهاء سريع ورخيص للمواجهة. من الصواب وضع أهداف بعيدة المدى – مثل “الحسم” – والخروج إلى هجوم بري يستوجب التزاماً بعدد أسابيع قتال تكون الجبهة الداخلية في أثنائها مكشوفة لهجمات الصواريخ.
السياقات الأخرى كفيلة بأن تنطوي مثلاً على صورة جبهات متعددة معقدة لا يكون فيها لبنان الساحة الوحيدة، بل ولا حتى الساحة الرئيسة، مثلاً حين تكون إيران هي الساحة الأساس فيما يمثل لبنان محاولة من المحور لحرف إسرائيل وشغلها بساحة ثانوية. في مثل هذه السياقات، ينبغي الاستيضاح جيداً أن يكون صحيحاً فقدان درجات من الحرية والالتزام بالمناورة في ساحة لبنان، فما بالك أن مثل هذه المناورة لا تستوجب فقط تخصيص قوات برية، بل وأيضاً مقدرات جمع معلومات ومساعدة جوية واضحة.
ولكن في الأوضاع التي تسعى فيها إسرائيل لإخراج شيء من “حزب الله” وخلق واقع استراتيجي جديد، قد يسمح تغيير الشروط بعمل ذلك دون حافة الحرب. فثمن الحرب الكاملة هائل للطرفين، وقرار الخروج إلى الحرب أصعب. وعليه، قد تتسع درجات الحرية دون حافة الحرب. يحتمل أن تكون المواجهة حول مسألة السلاح الدقيق مثلاً تتضمن تبادل ضربات موضعية، ولكن دون التصعيد إلى حرب كاملة. وحتى في المواجهة المحدودة، فإن الزمن والثمن والمقدرات اللازمة لتنفيذ هجوم بري كفيلة ألا تتناسب والإنجاز المحدود المطلوب في مثل هذه المواجهة.
في أوضاع تحاول فيها إسرائيل أن تغير الواقع في لبنان أو في المعركة تجاه المحور الذي تقوده إيران، ينبغي للمواجهة أن تستمر إلى أن تنشأ ظروف تغير الواقع، حتى لو انطوى هذا على إطار زمني طويل يمكن في أثنائه استكمال الهجوم البري. في أوضاع لا تسعى فيها إسرائيل لإخراج شيء من “حزب الله”، عليها أن تسعى لإنهاء فوري للمواجهة، وإن كانت من أجل تقليص الضرر لإسرائيل. هذه الفترة الزمنية كفيلة بأن تكون أقصر من أن تضم مناورة. ومع ذلك، يمكن للمناورة أن تشكل رافعة لفرض إنهاء المواجهة حين تنضج الظروف لذلك من ناحية إسرائيل، وعليه فيحتمل أن تكون ضرورة ليعد لها فوراً في بداية المواجهة.
الخلاصة: مركزية الـ “من أجل”
هناك سياقات خاصة يصحّ فيها تنفيذ هجوم بري واسع. ولكن يجب الامتناع عن المناورة، وعلى القرار أن يُفحص في ضوء السياق. يجب الامتناع عن الميل للمناورة كجزء من الفكرة التأسيسية أو على سبيل التحسين لقرارات مغلوطة اتخذت في 2006 أثناء حرب لبنان الثانية. فمنذئذ، تغيرت الظروف، والحل الصحيح لحرب لبنان الثانية ليس بالضرورة الحل الصحيح للمواجهة التالية، غير معروفة السياق.
القسم الأهم في كل أمر عسكري هو الجملة التالية بعد عبارة “من أجل”، وهو مضمون المنطق في الأمر. يجب أن يتخذ قرار المناورة لتحقيق إنجاز مهم، يسهم في تحقيق أهداف الحرب في السياق الاستراتيجي المعين الذي نشبت فيه. على الـ “من أجل” أن توضح لماذا سيكون الواقع أفضل في أعقاب المناورة، في عالم مفاهيم مستوى صاحب القرار، وليس في عالم المفاهيم التكتيكية أو العملياتية. فزيادة الدمار للخصم مثلاً، بحد ذاته، هو مقياس مادي – تكتيكي، ولا يحسن الحياة ما بعد المواجهة وفي عالم مفاهيم صاحب القرار. الخطة لمواجهة محدودة أو دفاع ليست خطة للهجوم الكامل الذي قلص في الزمن الحقيقي. هذه خطة أخرى، وعلى صندوق أدوات الجيش الإسرائيلي أن يتضمن خطط كهذه أيضاً.