بقلم: د. أحمد يوسف
بعد انتفاضة الأقصى في عام 2000، تأكدت قناعتي أن نهاية هذا الكيان العنصري المتطرف قد اقتربت، وإرهاصات ذلك تترآي ليس فقط فيما يجري على الأرض من ظلم وطغيان يتعرض له الفلسطيني تحت الاحتلال أو حالة التمييز العنصري (الأبارتايد) التي يعاني منها إخوانهم داخل هذا الكيان الاستعماري الغاصب، بل أيضاً روح التحدي العالية التي يتمتع بها شباب الانتفاضة، ورغبات الاستشهاد دفاعاً عن الأقصى والكرامة الوطنية، إضافة إلى أنفاس الأمة ووقفاتها الإيجابية لدعم نضالات الشعب الفلسطيني، فهذه كلها مجتمعة حرَّكت الفكر والقلم للبدء في تسجيل فصول ما اختمر في الذهن من كتاب بعنوان (نهاية الدولة اليهودية.. مسألة وقت) باللغة الإنجليزية.
عرضت الكتاب بعد الانتهاء من تجهيزه للمطبعة لصديقي الأمريكي المسلم د. روبرت كرين ليضع بقلمه مقدمة للكتاب، فأشار عليَّ بعد قراءته بعدم نشره في الولايات المتحدة؛ لإن ذلك سيجعلني هدفاً لجماعات الإسلاموفوبيا وسيعرضني للاتهام من اليهود الصهاينة بـ”معاداة السامية”، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، والتي ارتفعت فيها وتيرة العداء وأجواء الكراهية لكلِّ ما هو إسلامي، فما بالك إذا كان المتهم إسلامي فاسطيني!!
على إثر ذلك التحذير، لم يُنشر الكتاب، واحتفظت به حتى يومنا هذا، وإن استغرق العمل فيه أكثر من عامين.
ورغم أن قضية نهاية الدولة اليهودية أو زوال إسرائيل فكرة لم يتوقف الحديث أو الكتابة عنها، إما لكونها نبوءة جرى تناولها في التوراة والإنجيل والقرآن، وغدت مستنداً يرجع إليه كلُّ من تعاظمت قناعاته عبر قراءاته للُسنن وواقع الحال ومؤشرات الميدان. فالذي يشاهد حالة التطرف لدى المستوطنين الصهاينة، ووحشية ما يقومون به ضد الفلسطينيين، والتدنيس المتعمد لمقدسات المسلمين والمسيحيين في الأرض المباركة، وردات الفعل لجيل ٍ ناهضٍ من صميم اليأس (جبارٌ عنيدُ)، يرى في نفسه تجسيداً لحالة البعث في وعد الآخرة، باعتباره بشرى “عباداً لنا”، حيث يتسابق على الاستشهاد وأخذ الثأر بروح الواثق أنَّ هذا الكيان المارق إلى زوال.
في السنوات العشر الماضية، استحوذت نبوءة “زوال إسرائيل 2022″، التي كتب عنها الشيخ بسَّام جرّار على خطاب الإسلاميين، وخاصة في حركتي حماس والجهاد الإسلامي، إذ كانت تمنح كوادرهما الاطمئنان بقرب الانتصار والفوز المبين.
ومع انقضاء زمن هذه النبوءة دون تحقيق أمر الزوال، عاد البعض للتمسك بما بشَّر به الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) في الثمانينيات، من حيث أنَّ هذا الحدث الخاص بزوال إسرائيل أو اهتزاز عظمة علو كيانها سوف يتحقق عام 2027.
وبغض النظر عما يطرحه هؤلاء المفكرون والعلماء من نبوءات ذات سياقات دينية مفتوحة الأجل، فإن هناك أيضاً من يكتب ويحلل بما يتوافق مع حقيقة أنَّ القضية ما تزال “مسألة وقت”.
ومع كلِّ أحداثٍ مستجدة تتفاعل فيها المواجهات لحالة هي الأقرب لملحمة الدم والشهادة، التي يُشيد بطولاتها الشباب الفلسطيني، الذي يضرب -بقوة وجسارة- في العمق الإسرائيلي، يتبدى التَصدُّع والتآكل في جدران هذا الكيان الإسرائيلي الذي تمزقه الانقسامات، وتوهنه الاحتجاجات والأزمات السياسية والاقتصادية، التي تشي فعلاً بحقيقة أن “قلوبهم شتى”، وأنهم على غير ما نحسب من اجتماع الصف ووحدة الرؤية والموقف والمصير.
ومع قناعتي التي كتبت عنها منذ عقدين من الزمن، فإن الكثير من المتدينين والعلمانيين اليهود ما زالوا يؤكدون بأن هذا الكيان -الذي يُساء وجهه يوماً بعد يوم- هو في طريقه للزوال، وإن كان هناك غياب في معرفة كيفية حدوث ذلك، إلا أن الحتمية قائمة، وإن كانت مسألة التوقيت هي ما تتباين حوله القراءات ومشاهد التحليل.
لن نذهب بعيداً في استقراء حقب التاريخ لفهم ما كانت عليه تداعيات “لعنة الرب”، وما يعنيه هذا الوعيد بـ”سوء العذاب” في مجريات ما يحدث اليوم من مواجهات دامية لا يغيب عنها هدير التكبير والتذكير بخيبر عن حناجر الآلاف من المشاركين فيها أو في مسيرات الجنائز لتوديع الأبطال من شهدائها.
وعودة إلى نبوءة الزوال، التي تعيش معنا كحتمية لنهاية هذا الكيان العنصري، سأذكر بعضاً مما جاء على ألسنة حتى من قاموا بتأسيس هذا الكيان.
يروي ناحوم غولدمان في كتابه (المفارقة اليهودية)، تفاصيل لقاء جرى بينه وبين بن غوريون سنة 1956، والذي يمكن وصفه بلقاء المصارحة أو البوح الخطير، وكانت خلاصته أنه “لا مستقبل لإسرائيل”.
وإذا كانت هذه هي نبوءة أحد الآباء المؤسسين، فما هي نبوءات الآخرين من هذا الجيل؟
يشير آفي غيل؛ المدير العام السابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية، والباحث الكبير في معهد سياسة الجمهور اليهودي، في مقالٍ له بصحيفة (معاريف) العبرية، بعنوان “خلف الضعف الفلسطيني توجد لعنة قاتلة: نهاية دولة إسرائيل كدولة يهودية”، مشيراً إلى أن “الكثير من الإسرائيليين يعتبرون أن الضعف الفلسطيني، هو مسيرة مباركة، غير أن دهاء التاريخ من شأنه أن يثبت بأن في البركة تختفي نقمة فتاكة؛ وهي نهاية إسرائيل كدولة يهودية”.
أما الجنرال المُتقاعد شاؤول أرئيلي؛ المُستشرق المُختص في الصّراع العربي الإسرائيلي، فقد نشر مقالًا في صحيفة (هآرتس)، قال فيه: إن الحركة الصهيونيّة فشلت في تحقيق حُلم إقامة “دولة إسرائيليّة ديمقراطيّة، بأغلبيّة يهوديّة، وإن الوقت ليس في صالح إسرائيل، وإن هذه النظريّة سقطت”.
أما المحلّل الإسرائيلي المُخضرم آري شافيط، فقد كتب مقالًا في الصّحيفة نفسها كان أكثر تشاؤمًا، وقال فيه “اجتزنا نقطة اللّاعودة، وإسرائيل تَلفُظ أنفاسها الأخيرة، ولا طعم للعيش فيها، والإسرائيليّون يُدركون مُنذ أن جاءوا إلى فلسطين أنهم ضحيّة كذبة اختَرعتها الحركة الصهيونيّة استخدمت خِلالها كُلَّ المَكر في الشخصيّة اليهوديّة، عندما ضخّمت المحرقة واستغلّتها لإقناع العالم أن فلسطين أرض بلا شعب، وأن الهيكل المزعوم تحت الأقصى” واختتم مقاله بالقول: “حان وقت الرّحيل إلى سان فرانسيسكو أو برلين”.
أما الصحفي الإسرائيلي اليساري جدعون ليفي فقد أشار في مقالٍ له: “إنّنا نُواجه أصعب شعب في التّاريخ، وعمليّة التدمير الذاتي والمرض السرطاني الإسرائيلي بلغا مراحلهما النهائيّة، ولا سبيل للعِلاج بالقبب الحديديّة، ولا بالأسوار، ولا بالقنابل النوويّة”.
وبالطبع، يمكننا أيضاً الإشارة إلى ما سبق أن تلفظ به نتنياهو في تصريحٍ نُسِبَ إليه، قائلاً: “سأجتهد لكيّ تبلغ إسرائيل عيدها المئة”.
وإذا أخذنا في الاعتبار ما خلص إليه شلومو ساند؛ المؤرخ الإسرائيلي، في كتابٍ صدر له مؤخراً بعنوان (اختراع الشعب اليهودي)، والذي فاجأ به الاوساط الصهيونية بدحض كلّ الادعاءات التي تعتاش عليها إسرائيل لتبرير حق وجودها على أرض فلسطين.
ولعل ما أورده الحاخام اليهودي الأمريكي “إد ميلر” في كتابه (رؤية إبراهيم)، من حيث فضل الإسلام والمسلمون في حماية اليهود واليهودية، ومراجعة التاريخ تكفي شاهداً على ذلك.
باختصار.. إن إسرائيل دولة أوهى من بيت العنكبوت، وأن ما يجري اليوم من مواجهات دامية في الضفة الغربية، واحتجاجات لعشرات الآلاف من اليهود داخل هذا الكيان رفضاً لسياسات حكومته، إنما هو إرهاصات لقرب سقوط “حجر الزاوية” الذي بنت عليه الصهيونية أركان هذا البيت اليهودي، الذي يتأهل الكثير من ساكنيه للرحيل.