من يعيد من إلى العصر الحجري؟

أدخل  وزير الدفاع الإسرائيلي يو آف غالنت، مصطلح إعادة لبنان إلى العصر الحجري، إذا ما قام حزب الله أو غيره بأي عمل حربي يمس أمن إسرائيل، وإذا ما نظر للأمر من زاوية الإمكانيات والقدرات فلدى إسرائيل قوة تدميرية تقليدية ونووية يمكنها ليس فقط إعادة لبنان إلى العصر الحجري بل المنطقة كلها.


وبالمقابل، ردّ السيد حسن نصر الله على غالنت باستخدام نفس المصطلح أي أن إسرائيل ذاتها ستعود إلى العصر الحجري إذا ما قامت بمجازفة كهذه ضد لبنان.

بقياس القدرات المتوفرة لكل طرف من أطراف مصطلح “العصر الحجري” فإن ما لدى كل منهما من قوة ظاهرة ومخفية، وإن كانت غير متكافئة، إلا أنها تجسد قوة ردع متبادلة “للذات قبل الآخر” فالطرفان يدركان بالحسابات المجردة، أن ثمن مغامرة على هذا المستوى، سوف يتقاسمه الطرفان.. لهذا وهما يتحدثان بلغة التهديد والتحدي، يحرصان على تجنب الانجرار إلى تصعيد كهذا. فما الذي تجنيه إسرائيل لو أعادت لبنان إلى العصر الحجري أي تدميره كليا، وهي تدرك أنها ستدخل نفسها في دوامة لا مخرج منها، فالحرب ربما لن تكون موضعية – لبنان وإسرائيل- وخطر تحولها إلى إقليمية غير مستبعد، ولن تكون بالنسبة لإسرائيل كحرب 1967 أو غيرها من الحروب “المنتصرة” بل ستكون أفدح بكثير من حيث الخسائر وهذا ما يقوله الإسرائيليون أنفسهم.

القوة العسكرية الإسرائيلية، وورائها الامريكية لا تقاس في مجال الحسم مع الآخر، وفق حسابات من يملك أكثر ومن يملك أقل، بل هنالك مقياس عملي جعل الأقل أكثر قدرة من الأكثر، وإذا ما نظرنا بتجرد لكل الحروب التي خاضتها أمريكا الأقوى مع الأطراف الأقل، فإننا نجد أنها كانت تفضي إلى هزائم، ذلك بفعل القيود الذاتية والموضوعية التي تمنع استخدام الحدود القصوى للقوة، فما كان ممكنا في حسم الحرب العالمية نوويا في القرن الماضي، لم يعد ممكناً في هذا القرن، وإلا لرأينا حسماً سريعاً في أفغانستان، حيث الهزيمة المذلة لأقوى قوة في الكون، ولرأينا حسماً في أوكرانيا حيث القوة الروسية المتفوقة بما لا يُقاس أمام القوة الأوكرانية المتواضعة التي نمت وكبرت خلال الحرب.

تنقص قوة إسرائيل التقليدية المتفوقة عسكريا وتكنولوجيا وتحالفيا واقتصاديا، رؤيةٌ موضوعية، لقوة الخصم ليس من زاوية كم لديه، بل كم باستطاعته منع إسرائيل من الحسم النهائي. والفلسطينيون يصلحون كمثل حي على هذه النظرية، لم تدخل إسرائيل أي حرب مع الفلسطينيين الا وكانت متفوقة بما لا يقاس، وبعد ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، أين هو الحسم المنشود بفعل تفوق القوة؟

وما دام الحديث عن “العصر الحجري” الآن فيما يخص لبنان، الذي وصف بأنه “القوي بضعفه” فكم حربا شُنّت عليه، ألم يصل جيش شارون إلى قلب بيروت ذلك قبل عقود، فما هي الصورة الآن، وكيف ينبغي أن تقرءها إسرائيل قبل غيرها..

يتحدث جنرالات إسرائيل عن حرب محتملة متعددة الجبهات، وبلغة “الأمجاد القديمة” تتحدث عن قدرة فائقة لحسم الأمور عليها جميعا وربما في ضربة واحدة، الغائب عن المنطق.. ماذا بعد ذلك؟

في إسرائيل تعّودٌ يصعب الفكاك منه، على نوع من الغرور بأن لديها ما يكفي لكسب أي حرب، سواء على الجبهات المحاذية والمتعددة، وفوقها من هو في مكان أبعد، فهل فكرت إسرائيل بما يجنبها هذه المخاطرات التي إن بدت منتصرة إلا أنها مجرد حلقات من سلسلة حروب لا تتوقف ولا تنتهي، وإن لم يكن متاحا أن تحسم بضربة قاضية وهو ليس متاحا على كل حال، فما الذي يسوّغ لإسرائيل أنها قادرة على الحسم بالنقاط مع أنها تحارب بلا توقف، وتتفوق كثيراً.. وترى بالعين المجردة، أن من راهنت على حسم أمرهم يكبرون وتتضاعف قدراتهم!!

بدل الحديث عن مستحيل العصر الحجري، لتتحدث إسرائيل وتفعل لعصر سلمي تعيد فيه ما اغتصبت من حقوق الآخرين، فلسطينيين وعرب، فهذا الاتجاه أجدى وأكثر فائدة، من الوقوف على السلاح إلى ما لا نهاية.

هنالك ما يوازي العصر الحجري من السوء، وهو تواصل الحياة بين حرب تقع، وحرب يُنتظر أن تقع . وسلامٍ يبدو كسراب كلما ظننا أننا نقترب منه، يبتعد، ونبتعد.