“مقام يوسف” في نابلس.. مفرمة اللحم التي لا تتوقف

على غير عادتها، غابت مظاهر ومشاعر الفرح بنتائج الثانوية العامة في مدينة نابلس هذه المرة، فلا مفرقعات، إلا ما ندر، ولا  أبواق سيارات تجلجل الشوارع، ولا اصطفاف أمام محلات الكنافة الشهيرة؛ وكأن لسان حال المواطنين يقول “كيف نفرح وفي حضرتنا شهيد”.


وبالتزامن مع اعلان نتائج الثانوية العامة، صباح الخميس، كانت مكبرات الصوت في مساجد المدينة تنعى الشهيد بدر سامي  المصري (19 عاما) والذي ارتقى برصاص الاحتلال قبيل اعلان النتائج بساعات خلال المواجهات التي كانت رحاها تدور في محيط “مقام  يوسف” الذي اقتحمته قوات الاحتلال لتوفير الحماية لمئات المستوطنين المتطرفين الذين وصلوا إلى هناك بذريعة الصلاة فيه، وهو أمر متاح لهم، وفق اتفاقيات “أوسلو”؛ التي التزم بها الطرف الفلسطيني فقط.

في محيط قبر يوسف كانت تتعالى أصوات العبوات والقنابل وأزيز الرصاص، وفي أروقة المستشفى كانت تتعالى آهات وأنات عائلة الشهيد، فقد وصل للتو والداه المفجوعان المكلومان وهما يناجيان السماء ويتلمسان باياد مرتجفة جسد فلذة كبديهما الذي استعجل الرحيل.

يقول مواطنون يقطنون في جوار “مقام يوسف” بأنه ما أن بدأت مكبرات الصوت ومواقع التواصل الاجتماعي، بالإعلان عن استشهاد أحد شبان المدينة خلال المواجهات، حتى أخذ المستوطنون يرفعون من منسوب الاستفزاز، وقد أخذت ضحكاتهم تتعالى، وازدادت احتفالاتهم صخبا، فمن وجهة نظرهم دوما أن “العربي الجيد، هو العربي الميت”.

عشرات الشهداء من أبناء المدينة ومخيماتها وقراها، ارتقوا خلال السنوات الماضية في معارك الدفاع عن “مقام يوسف”، والمئات جرحوا أيضا، وكذلك كان هناك قتلى من الاسرائيليين، في هذا الصراع الذي لا يكاد ينتهي حول هذه الأمتار المعدودة، والتي باتت رمزا للصراع بين الحق والباطل.

ويؤكد الفلسطينيون أن “مقام يوسف” هو مبنى إسلامي ومسجل لدى الأوقاف، ويضم ضريح أحد الأولياء الصالحين، ويدعى الشيخ يوسف دويكات، فيما يزعم الإسرائيليون أن المبنى يضم رفاة النبي يوسف عليه السلام، والتي، حسب مزاعمهم، احضرها بنو إسرائيل معهم لدى خروجهم من مصر.

وكان الاحتلال قد بسط سيطرته على “قبر يوسف” أو “مقام يوسف” عند احتلال نابلس في حزيران  1967، وتحول الموقع إلى مزار للمستوطنين يقيمون فيه طقوسهم التلمودية باستمرار، وفي عام 1986 أنشأ الاحتلال  فيه مدرسة يهودية لتدريس التوراة، وفي عام 1990 تحول القبر إلى نقطة عسكرية يسيطر عليها جيش الاحتلال.  

أعنف جولات الصراع حول “مقام يوسف” وقعت في العام 1996 خلال ما عرف بـ “هبة النفق” حيث وقع اشتباك مسلح بين قوى الأمن الفلسطيني وجنود الاحتلال، قتل خلالها 7 من جنود الاحتلال كانوا ضمن قوة تحرس ” مقام يوسف”.

وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، حصلت معركة في محيط  “مقام يوسف” قتل حينها أحد جنود الاحتلال وأصيب آخرون، كما استشهد ستة فلسطينيين بمواجهات دامية واشتباكات مسلحة، وافضت المواجهات في حينه إلى انسحاب قوات الاحتلال من قبر يوسف، وعبر الفلسطينيون عن فخرهم  بانتزاع مقام يوسف من ايدي الاحتلال.

وفي عام 2011، تسللت مجموعة من المستوطنين إلى القبر ليلًا بدون مرافقة قوات الاحتلال، وعند خروجهم، أطلق أفراد دورية الأمن الفلسطيني النار على مركبتهم بعدما رفضوا الانصياع لأوامرها بالتوقف، ما أدى لمقتل أحد المستوطنين.

وإلى اليوم لا يزال “قبر يوسف” مسرحا للأحداث، ويشبهه كثيرون بـ”مفرمة اللحم” التي لا تتوقف عن العمل، ففي كل مرة يقتحمه المستوطنون لا بد وأن تسيل دماء الفلسطينيين يسقط منهم شهداء وجرحى.

ويقر مسؤولون وباحثون وخبراء فلسطينيون بأن اعتراف السلطة الفلسطينية، وفقا لبنود اتفاقية أوسلو، بقبر يوسف كمكان مقدس لليهود في قلب مدينة نابلس كان سقطة كبيرة وثغرة استغلها غلاة المستوطنين المتدينين والمتطرفين لتثبيت وجودهم في هذه المدينة التاريخية، ولربما توسعة هذا الوجود مستقبلا.