معاريف – بقلم حاييم رامون- في أيام حملة “درع ورمح” تباكى معظم المحللين في الأستوديوهات ومن فوق صفحات الجرائد بمرارة لحقيقة أن ليس لحكومة نتنياهو استراتيجية إزاء قطاع غزة. وبالفعل، عندي لكم مفاجأة؛ لحكومات إسرائيل منذ 2009 استراتيجية وحيدة وواضحة تجاه قطاع غزة، ولهذه الاستراتيجية ثلاثة شركاء هم: رؤساء الوزراء بنيامين نتنياهو، ونفتالي بينيت ويئير لبيد، وستة وزراء دفاع (إيهود باراك، موشيه يعلون، افيغدور ليبرمان، نفتالي بينيت، بني غانتس ويوآف غالانت) وجملة رؤساء أحزاب مشاركة في الائتلاف (تسيبي لفني، ميراف ميخائيلي ونيتسان هوروفيتس مثلاً). باختصار، الساحة السياسية كلها، من “ميرتس” وحتى “الصهيونية الدينية” تؤيد تلك الاستراتيجية – إجماع واسع حقيقي!
وما هي تلك الاستراتيجية التي تعود إلى 14 سنة وأفلتت من عمل المحللين؟ بالفعل، منذ أن عاد نتنياهو إلى الحكم في العام 2009 عقد حلفاً غير مكتوب مع منظمة حماس، ولهذا الحلف هدف واحد: الحفاظ على الانقسام بين حماس في قطاع غزة والسلطة الفلسطينية، والحفاظ على الوضع الراهن السياسي. كابوس اليمين الأكبر في إسرائيل هو أن تنهار منظمة حماس وتعود السلطة الفلسطينية لتسيطر من جديد على قطاع غزة. وقد أجاد وصف ذلك وزير المالية بتسلئيل سموتريتش منذ العام 2015، في مقابلة مع قناة الكنيست: “السلطة الفلسطينية عبء، وحماس ذخر”.
في حديث خاص أجريته مع مسؤول كبير في الحكومة في أثناء الحملة، قال لي: “محظور بأي حال أن تعود السلطة إلى الحكم في غزة حتى بثمن الحفاظ على حكم حماس”. لكل المتشككين الذين يصعب عليهم تصديق ذلك، بودي أن أقتبس نتنياهو نفسه، الذي قال في لقاء مغلق أجراه في 11 آذار 2019 مع رجال الليكود: “إن نقل المال جزء من الاستراتيجية للفصل بين الفلسطينيين في غزة والضفة. كل من يعارض إقامة دولة فلسطينية يجب أن يؤيد نقل الأموال من قطر إلى حماس، هكذا نحبط إقامة دولة فلسطينية” (أقوال اقتبست في “جيروساليم بوست”). شهادة من صاحب حكم كمئة شاهد.
إذا بقي لأحد ما شك فسأقتبس أقوال اللواء احتياط غيرشون هكوهن، رجل اليمين الصرف والمقرب من رئيس الوزراء: “يجب قول الحقيقة: استراتيجية نتنياهو هي منع خيار الدولتين، ولهذا فقد جعل حماس شريكه الأقرب. بالبعد العلني حماس عدو، بالبعد الخفي حليف” (من مقابلة في استديو “واي نت”).
ثمن هذا المفهوم كلنا ندفعه، وأساساً يدفعه سكان الجنوب. منذ 2009 بلغ عدد قتلى أعمال حماس من غزة قرابة مئة. استثمرت دولة إسرائيل (وتواصل استثمار) مليارات الشواكل كي تحمي نفسها من منظمة إرهاب. منذ 2009 كانت تسع جولات من المواجهات مع حماس و”الجهاد الإسلامي”. بعد كل جولة، تباهى رؤساء الوزراء ووزراء الدفاع بأن منظمات “الإرهاب” “تلقوا ضربة قاضية وهُزموا”. انظروا العجب: بعد فترة قصيرة، تنتعش حماس و”الجهاد”، مثل طير الرماد، يعودون إلى عادتهم ويطلقون الصواريخ والمقذوفات الصاروخية على سكان إسرائيل بعامة، وعلى سكان غلاف غزة بخاصة.
هذه الجولات القتالية عطلت حياة ملايين المواطنين. في الحملة الأخيرة، أقام نحو مليون نسمة في المجالات المحصنة. الحياة في جنوب البلاد تشوشت تماماً. ليس هذا فحسب، بل إن حماس “ذخر” سموتريتش ونتنياهو، لا تكتفي بتنغيص حياة سكان الجنوب وتعمل على نشر الموت والدمار والكراهية في أرجاء البلاد. تقف حماس خلف عمليات “الإرهاب” التي تتم في الضفة، وقنوات الإعلام الرسمية التي لديها تعمل بتحريض حاد ومنهجي ضد إسرائيل وشبكاتها الاجتماعية تتفجر بالأقوال الغليظة التي تنشرها المنظمة. كل عملية “إرهاب” يقتل فيها يهود هي إنجاز في نظر “الحليف” الحماسي.
منذ 2019 توثق الحلف الخفي بين إسرائيل وبين حماس. في أثناء حملة “حزام أسود” في 2019، حملة “بزوغ الفجر” في 2022 وحملة “درع ورمح” التي جرت مؤخراً، وجهت الهجمات الإسرائيلية حصرياً ضد “الجهاد الإسلامي”، وذلك رغم أن إطلاق الصواريخ من نشطاء “الجهاد” تم بإذن من حماس وبناء على رأيها. تجدر الإشارة إلى أن حملة “بزوغ الفجر” في 2022 خاضتها الحكومة برئاسة بينيت ولبيد وأدارها وزير الدفاع غانتس. بمعنى أن حكومة التغيير تبنت سياسة نتنياهو تجاه قطاع غزة بشكل مطلق. نتنياهو واليمين أفهمهم. فلأجل الدفع قدماً بالضم بحكم الأمر الواقع للضفة، هم مستعدون للضحية بسلامة وأمن سكان الجنوب. ادعائي الوحيد تجاههم أنهم لا يعلنون على رؤوس الأشهاد: هذه سياستنا. لكن سلوك المعارضة لا أفهمه. غريب في نظري أن تتبنى قيادة المعارضة، عملياً، سياسة نتنياهو تجاه قطاع غزة – سياسة تتعارض وفكرة حل سياسي هدفه الانفصال عن الفلسطينيين (أي حل الدولتين).
غادي آيزنكوت، وهو اليوم من قادة المعسكر الرسمي، قال ذات مرة إن “تعزيز حماس في قطاع غزة خطأ استراتيجي جسيم علينا أن نضع حداً لحكم حماس في قطاع غزة… وأن نعمل على أن يدير القطاع جسم معتدل. يمكن لهذا أن يكون فقط السلطة الفلسطينية التي وقعت إسرائيل معها على اتفاق (في مقابلة مع “يديعوت أحرونوت”).
كل ما تبقى هو أن نسأل أين اختفيتما يا غانتس وآيزنكوت؟ (لا أنتظر توقعات من لبيد). لماذا لا تنهضان وتعرضان بديلاً بروح تصريحات آيزنكوت بدلاً من الحديث بشعارات فارغة المضمون؟ قبل الانتخابات 2019 توجهت إلى أحد رؤساء الأركان السابقين ممن وقفوا في حينه على رأس “أزق أبيض” واقترحت عليه أن يكشف لسكان الجنوب استراتيجية الانقسام التي من أجلها ضحى نتنياهو بسلامتهم وأمنهم. عاد الي وقال إن استراتيجيتهم هي “فقط لا بيبي” لا غير. لأسفي، يبدو أن الأمر لم يتغير منذئذ، والمعارضة تواصل التركيز “فقط لا بيبي” (بينما عملياً، هم يتبنون استراتيجية بيبي إياه كريه نفوسهم). نتيجة لذلك، فإن أي جهة في الساحة السياسية لا تقترح اليوم أي بديل لاستراتيجية الانقسام التي وضعها نتنياهو واليمين، سلوك يخلد الوضع القائم وسيؤدي في نهاية الأمر إلى خلق دولة ثنائية القومية.