لم يتبق الكثير على قيد الحياة من اللاجئين الذين اجبروا على ترك منازلهم في عام النكبة ، و الذي ولد في ذلك العام يبلغ اليوم من العمر خمسة و سبعين سنة ، و بالتالي فإنه لا يتذكر شيئا عن ذلك الرحيل القصري ، لكنه بالتأكيد يحفظ ما سمعه من الاباء والاجداد عن ذلك الرحيل الذي صاحبه كل ذلك الألم المترتب عن الحنين السرمدي الذي رافقهم طوال حياتهم .
نسوق ذلك لما ذكره وزير الحكم المحلي في السلطة من ان “عشرين عائلة في مخيم جنين لم تتمكن بعد من العودة الى منازلها التي لم تعد صالحة للسكن” ، ولا أعرف كيف صعدت الى رأسي ذكريات جدي عندما قرأت تصريح الوزير من انه خلال أسبوعين ستستوفي اللجنة القائمة على الاعمار اعمالها ، كان جدي يعيد ما يسمعه عبر إذاعة لندن من ان عودته الى بيته ستتم خلال الأسبوع القادم ، ثم خلال الشهر القادم ثم العام القادم ، حتى لم يعد يصدق ، و مات قبل ان يتحقق حلمه بالعودة ، و مات بعده ابي الذي لم يكن على نفس سذاجة جدي بتصديق أكاذيب زعماء العرب و العالم و الأمم المتحدة ووكالة الغوث .
عودوا الى منازلكم . الحديث موجه الى العائلات العشرين من مخيم جنين ، على الرغم من انهم لاجئون ينتظرون عودتهم في المخيم / المحطة ، و على الرغم من ان المقارنة ليست متقاربة بين نكبة شعب و نكبة مخيم ، فإنني ادعوهم ان يعودوا الى منازلهم وهي مهدمة و مردمة ، عودوا وانصبوا امامها خيام من الصليب الأحمر او الأخضر او حتى من الوكالة ، فقدرنا على ما يبدو ان نظل اسرى هذه المنظمات و هذه الخيام ، لا تقايضوا بقاءكم في فندق خمس نجوم ، بأنقاض البيت المهدم و المردم ، حيث تفوق فرحة العودة اليه ترف النوم في فندق ، فهنا لكم حاضر و مستقبل ، ذلك ان ذكرياتكم هنا ، و افراحكم هنا وآلامكم هنا ، و نضالكم هنا . اياكم ان تثقوا بأحد من السلطة او المعارضة او المستقلين ، فهؤلاء على الاغلب يبيعونكم بضاعة الآخرين التي يشترونها مجانا من الدول الاخرى . في الانتفاضة الثانية ، وافقت السلطة على ابعاد 39 من محاصري كنيسة المهد ابعادا مؤقتا لمدة سنة واحدة ، و ها هم تأبدوا في الابعاد ، وان بعضهم بدأ في مفارقة الحياة قبل ان تسمح له إسرائيل بالعودة الى مسقط رأسه حيا و لا حتى ميتا .
لا تستبعدوا ان يذهب البعض الى ما هو ابعد من ذلك ، كالاتجار في قضيتكم و غربتكم و تشردكم و ما تبقى من بيوتكم ، وجمع التبرعات في المساجد و ربما خصومات من الرواتب ، كتلك التي نظمت اكثر من مرة لإغاثة المنكوبين في قطاع غزة ، و ما زال الكثيرين منهم بدون منازل . والاهم ان لا تنظروا اليها على انها “قفارا” ، لأنها بدورها ستنظر اليكم كذلك . وهذا ما اعتقده الشاعر المعاصر جورج جرداق حين قال : وديار كانت قديما ديارا ، سترانا كما نراها قفارا ، لكن المتنبي قبل ما يزيد عن الف سنة قال : لك يا منازل في القلوب منازل / أَقفَرتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ .