ما فعلته شركة الامن الروسية “فاغنر”السبت الماضي ، جعلت العالم كله تقريبا يضع يده على قلبه تحسبا و توجسا من اندلاع حرب أهلية تطيح بكل أحلام الكوكب في وضع نهاية حكمه من قبل القطب الواحد ، و لا نظن ان الوصف الذي أطلقه صاحب السلطة و البلاد فلاديمير بوتين “بالخيانة و طعنة في الظهر” ، كان مبالغا رغم قسوة وشدة التعبير والوصف .
في العقود القليلة الماضية ، شهد العالم تغييرات كيفية عديدة طالت الصعد الحياتية كافة ، جعلت العديد من المفكرين الاستراتيجيين “الفلاسفة” يقرون انها تعادل او حتى تفوق ما شهده العالم خلال كل تاريخه المكتوب قبل ستة الاف سنة ، على سبيل المثال انتشار المطاعم ، مطاعم الوجبات السريعة ، و الدلفري ، بين كل مطعم ومطعم مطعم ، حتى السوبرماركت يبيع وجبات شبه جاهزة للالتهام ، فما هي الاستحقاقات المتوجبة على ذلك عدا انتشار الحمامات و المراحيض ، حتى اصبح يستحيل ترخيص أي مطعم متجر حانوت بدون مرحاض خاص بالرجال و آخر بالنساء .
الكرم ، انتهاء الكرم ، الذي عد حتى وقت ليس بالبعيد قيمة أساسية من قيم العرب العليا ، و قيل عن حاتم الطائي انه ذبح حصانه لاطعام ضيوفه ، فهل يعتقد أحد اليوم بجدوى و صوابية وجود حاتم طائي ، و من اين لنا بحصان نذبحه لضيوف أخذ منهم الجوع مأخذه ، لماذا لم يعرجوا على اول “كي اف سي” او ماكدونالد او على اصغر بقالة فيشتروا علبة حمص كبيرة مع ربطة خبز فيداروا جوعهم . و لا أستبعد ان يخرج علينا اليوم من يعتبر الكرم عموما ضربا من الهبل .
مفاهيم وقيم كثيرة اتى عليها قطار الحضارة السريع ، آخرها الوطن والذود عن حياضه بشركات الامن الخاصة ، وهم اقرب الى المرتزقة والسجناء و الجناة و العتاة منهم الى الجند الخلص الميامين ، و هؤلاء يعكسون ولاءاتهم لمن يدفع لهم أكثر . و قد انتشرت هذه “الصناعة” في عديد من مجالات الامن في دول العالم ؛ أمن السجون و البنوك و المؤسسات و الحراسات و حتى جوانب في سلك الشرطة و المحاكم .
في وطننا العربي ، تجاوزت المسألة هذا الحد ، الى الحد الذي اصبح المواطن يكره وطنه ، و مستعد لأن يهجره الى غير ذي رجعة مع اول قارب او زورق ، لأنه اكتشف ان هذا الوطن ليس فيه أي مقوم من مقومات الوطن ، وو فق نزار قباني “شقة مفروشة يملكها عنترة / يسـكَرُ طوالَ الليل عنـدَ بابهـا ، و يجمَعُ الإيجـارَ من سُكّـانهـا ..وَ يَطلُبُ الزواجَ من نسـوانهـا ، وَ يُطلقُ النـارَ على الأشجـار و الأطفـال و العيـون و الأثـداء والضفـائر المُعَطّـرة … / كلُّ الميـادين هُنـا ، تحمـلُ اسـمَ عَنتَرَهْ/ .فـي عرَبـات الخَـسّ ، و البـطّيخ و البـاصـات ، فـي مَحطّـة القطـار ، فـي جمارك المطـار..فـي طوابـع البريـد ، في ملاعب الفوتبول ، فـي مطاعم البيتزا و فـي كُلّ فئـات العُمـلَة المُزَوَّرَهْ / الخـبَرُ الأوّلُ عن عَنترَهْ .و الخَـبَرُ الأخـيرُ عن عَنتَرَهْ .هذي بلادٌ يَمنَحُ المُثَقَّفونَ – فيها – صَوتَهُم ،لسَـيّد المُثَقَّفينَ عَنتَرَهْ / يُجَمّلُونَ قـُبحَهُ ، يُؤَرّخونَ عصرَهُ ، و ينشُرونَ فكرَه و يَقـرَعونَ الطبـلَ فـي حـروبـه المُظـفَّرَه / لا نَجـمَ – في شـاشَـة التلفـاز – إلاّ عَنتَرَه / إنَّ الخيارات هنا ، مَحدودَةٌ ،بينَ دخول السَجن ،أو دخول المَقبَرَهْ ./ مَرّةَ ، يـأكُلُ من طعامنـا . و َمـرَّةً يشرَبُ من شـرابنـا .وَ مَرَّةً يَندَسُّ فـي فراشـنا . وَ مـرَّةً يزورُنـا مُسَـلَّحاً .ليَقبَضَ الإيجـار عن بلادنـا المُسـتأجَرَهْ .