قبضة أميركا باتت ضعيفة أمام المعادلات الجديدة بالمنطقة

الاستفراد بالهيمنة على المنطقة باعتبارها منطقة نفوذ أميركي في إطار الصراع على النفوذ العالمي مع القوى الكبرى الأخرى هو ما ميز السياسة الخارجية للولايات المتحدة عبر العقود الماضية، رغم عدد من التحديات، إذ تمكن الروس من اختراق هذا النفوذ في بعض الفترات الزمنية السابقة في عدد من الدول مثل سوريا والعراق واليمن الجنوبي وليبيا والجزائر ومصر في فترة محددة .


ان النفوذ الروسي يتمدد اليوم ليس فقط في تلك الدول حتى بعد ما جرى فيها من متغيرات بتفاوت الاسباب والنتائج ، وبما كان متوافقا مع الرؤية الاميركية لبناء الشرق الاوسط الجديد التي تحدثوا عنها قبل ربع قرن.

اما الآن فإن الدور الروسي بات يتمدد بفعل فشل اهداف ما سمي بالربيع العربي وتحديدا في سوريا ومخططات الشرق الاوسط الجديد الذي كان يخطط له بزعامة دولة الأحتلال، اضافة الى حركة المتغيرات الجارية بالنظام الدولي ليس فقط في تلك الدول التي اعتبرت حليفاً للإتحاد السوفيتي السابق، لكن في دول عربية جديدة كانت تُحسب على المعسكر الغربي بشكل كامل . كما أن هناك دولا قد نجحت في الخروج من دائرة النفوذ الأميركي مثل إيران بعد الثورة التي اصبحت اليوم تشكل ليس فقط لاعبا على مستوى الشرق الأوسط بل على المستوى الدولي من الصراع القائم وتفرض شروطها في مسار المفاوضات بشأن ملفها النووي كما حصل خلال اليومين الماضيين من الوصول الى اطار اتفاق والافراج عن جزء من الاموال الايرانية المحتجزة ، وبما اصبحت تمتلكه من قدرات التصنيع العسكري وباعتبارها اصبحت جزءا من تحالفات جديدة تفرض مواقف على التوازنات الإقليمية والدولية .

كما أن تركيا وبالرغم من عضويتها في حلف الناتو الأداة التنفيذية للسياسات الخارجية التوسعية للولايات المتحدة، إلا أنها باتت تتبنى سياسة مستقلة الى حد ما ، كما انها نجحت خصوصاً في العقدين الماضيين في تحجيم أدوات التأثير الأميركي والغربي عليها بعد نجاحها في تطوير إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية وعلاقاتها الدولية وتحديدا مع روسيا وفي البروز كلاعب إقليمي رئيس يحافظ على مصالحه رغم ما نتفق أو ما نختلف عليه مع هذه الدولة خاصة في شأن أحلامها اعادة أمجاد امبراطوريتها .

هذا إضافة إلى ما نشاهده اليوم من وضوح بالرؤية السعودية لدورها وما له من تأثير على مواقف عدد من دول الخليج ، ورغبتها في لم الشمل العربي والتي باتت تقارب الأمور مع الولايات المتحدة بشكل مختلف عن ما كانت عليه العلاقات سابقا ، وباتت تقرأ المعادلات الدولية الناشئة بحكمة وتتعامل معها على أساس وزنها المفترض ، مما يدفع الأميركيين لادراك ان السعودية تستوعب بشكل جيد المرحلة القادمة على العالم ، وباتت الإدارة الأميركية لديها الخوف من تموضع جديد للمملكة السعودية يضعها في مناهضة المعسكر الغربي .

كما تجدر الإشارة إلى أن الأميركيين في العقد الأخير أخذوا يعطون أولوية أكبر لمواجهة الصعود الصيني، وللتنافس عبر المحيط الهادئ ، كما ايضا لمواجهة روسيا خاصة في منطقة اوراسيا لمنع مزيد من تمددها ومن أجل وقف خطوات التحول نحو النظام الدولي متعدد الاقطاب، ولهذا كان افتعال حربها بالوكالة ضد روسيا في اوكرانيا، كما واضعاف الدور الأوروبي المستقل حتى يبقى في الفلك الأميركي، الأمر الذي بات يشهد معارضة كبيرة من شعوب القارة الأوروبية.

ان ذلك ربما أضعف بشكل محدود درجة التركيز الأميركي على الشرق الأوسط، غير أنه لم يؤثر على جوهر السياسة نفسها التي ترغب باستمرارها الولايات المتحدة والتي اخذت فيها المنطقة وشعوبها الى الحروب والتدمير، فالمصلحة الأميركية التي ما زالت قائمة على رؤية الهيمنة تتطلب ابقاء المنطقة بل العالم قائم على الصراع وإبقاء وجود بؤر من التوتر حتى تبقى قادرة على فرض دور دولة الاحتلال بالمعادلات التي تريدها بالمنطقة.

الا انه من جهة اخرى يبدو ان الولايات المتحدة قد اصبحت تدرك حقيقة المواقف والسياسات الجديدة في منطقتنا خاصة مع يدور من أزمة عميقة بالمجتمع الإسرائيلي وانفضاح امر نظام الابرتهايد فيها والانتقادات الواسعة لذلك بالرأي العام الاميركي وباوساط تقدمية بل ويهودية باميركا، كما واصبحت تدرك المقاربات التي باتت تميز علاقاتها مع العديد من الدول العربية والتي لم تعد كما كانت في سابق عهدها عندما كانت تملي فيها الادارات الأميركية ما تريده منها .

وامام ذلك فإن هنالك متغيرات في السياسة الأميركية، ترتبط بالسياسات والإجراءات والأدوات التي تستخدمها في رعاية مصالحها وإنفاذ ثوابت سياساتها. وهنا تتدخل مجموعة من العوامل مرتبطة بالخلفيات والميول السياسية الفكرية خاصة باختلاف المفاهيم المثالية والواقعية بادارة سياساتهم والثقافية للرئيس الأميركي وفريقه الحاكم والظروف الاقتصادية الأميركية والتي باتت في أزمة عميقة اليوم، والعالمية ودرجة الشعور بالمخاطر الخارجية والتعامل مع التنافس الدولي والقوى الكبرى وخاصة الصين وروسيا وعدد من دول تحالف “البريكس” الأخرى ودول القارة اللاتينية وسلوكها السياسي والعسكري والاقتصادي الذي قد يمس المصالح الأميركية أو يزاحمها في دوائر نفوذها.

الا ان الولايات المتحدة باعتقادي قد عادت الى منطقتنا من زاوية رؤية أخرى تمثلت امس الاول، بالبيان المشترك الصادر عن لقاء وزراء خارجية دول التعاون الخليجي مع الوزير الأميركي بلينكين، الذي اضطر لعمل أستدارة عن المواقف الأميركية السابقة وخاصة في شأن المواقف من سوريا، اليمن، الاتفاق السعودي الايراني كذلك ما له علاقة في شأن حدود حل الدولتين التي اشار لها البيان امس الاول .

واضح أن تمسك السعودية بالمبادرة العربية وبحل الدولتين على أساس حدود ١٩٦٧ وعدم الانجرار في علاقات التطبيع مع دولة الاحتلال دون ثمن ودون حل القضية الفلسطينية اولا كما صرح وزير خارجيتها، إضافة إلى اصرارها على خفض انتاج البترول وعدم الرضوخ للرؤية الأميركية بشأن ذلك وبما يتعلق بعضوية روسيا بالاوبيك ، زيادة على توسع العلاقات مع الصين قد دفع الأميركان لتلك الاستدارة بمواقفهم ومراجعتها.
الا ان هامش التغيير في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط يبقى برأيي محدوداً في طريقة إدارة الثوابت وعلى رأسها حماية دولة الاستعمار الإسرائيلي من جهة والتعامل التكتيكي والمرن مع التطورات من جهة اخرى بما يخدم مصالحها في محاولة افشال التحول الى نظام دولي متعدد الاقطاب. وهي في كل الأحوال لن تقف بجانب شعبنا الفلسطيني ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، غير أنها قد تتعامل بواقعية وبراجماتية عندما تنجح الشعوب في فرض إرادتها، أو عندما تجري الأمور في غير مصلحتها. ولكنها سرعان ما تعيد تموضعها بما يخدم إنفاذ سياستها من خلال دعم ما يتبقى لها من “حلفائها”، أو بوسائل الإفشال والإسقاط المختلفة لإعادة تطويع النظام السياسي بما يتوافق مع مصلحتها.
لكن الدول وشعوبها حين تحسم أمرها وتصر على تحقيق استقلالها فهي قادرة على فرض إرادتها والسير في دروب نهضتها سواء أحبت أميركا أم كرهت .