قانون خفض التضخم الامريكي يثير الفزع لدى الاوربيين

 

أعادت الحرب الروسية الاوكرانية تشكل مشهد العلاقات الاقتصادية الدولية من جديد، وساهمت في بناء تكتلات اقتصادية مع دول الصراع، فمن جانب سارعت الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا والاتحاد الاوروبي لدعم أوكرانيا في اطار الحفاظ على حصتها من النفط والغاز والحديد والزيوت والحبوب، بينما بينما ذهبت روسيا باتجاه فتح منافذ جديدة لتفريغ ضغوط الاجراءات الاوربية والامريكية، باتفاقيات طويلة المدى مع الصين بموجيها تمتص فوائض الغاز، وتخلق قناه تواصل مع النظام المالي العالمي الدولي الرديف لنظام سويفت.

ورغم كل الاجراءات التي اتخذتها دول الاسناد لأوكرانيا، الا أنها كانت فريسة سهلة للتضخم الذي اجتاح الولايات المتحدة الامريكية ووصل الى مستويات قياسية لم تشهدها منذ أربعون عاما 9.1% على اساس سنوي، حيث اتخذ الرئيس الأمريكي جو بايدن قراراً بحظر جميع واردات النفط والغاز من روسيا التي تعد ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم، وعلى إثر ذلك، ارتفعت أسعار الوقود في الولايات المتحدة إلى مستويات قياسية، وارتفعت أسعار السلع بنسبة 8.5 في المئة، وهي أكبر زيادة سنوية منذ ديسمبر/كانون الأول 1984، وهذا دفع الفيدرالي الامريكي لتبني سياسة متشددة لمواجهة هذا التضخم، سياسة نقدية تعتمد على رفع نسبة الفائدة على الدولار بهدف امتصاص الكتلة النقدية من الاسواق، وتحسين أسعار الصرف لصالح الدولار، فأسعار الفائدة المرتفعة تجذب الأجانب الذين يبحثون عن أفضل عائد بأقل مخاطرة على أموالهم، الأمر الذي يؤدي إلى تزايد الطلب على عملة الدولار.

اتخذ الفيدرالي قرارات برفع سعر الفائدة سبعة مرات متتالية ابتداء من شهر مارس/2022، حتى وصلت الى مستوى 4.5%، وقال عضو الفيدرالي وليامز إنه لا يرى أن الفيدرالي بحاجة لرفع أسعار الفائدة فوق مستويات الـ 6%، وتوقع ألا تقع الولايات المتحدة في ركود قريبًا.

الى جانب ذلك تبنى الديمقراطيون حزمة تبلغ قيمتها 739 مليار دولار للعديد من المقترحات، التي يعتبرونها “أكبر استثمار” في تغير المناخ في تاريخ الولايات المتحدة، يستثمر مشروع قانون خفض التضخم (IRA)، 369 مليار دولار في الحوافز الضريبية لإنتاج الطاقة المتجددة. ويتضمن ذلك 60 مليار دولار من الإعفاءات الضريبية لتصنيع الطاقة النظيفة، و 30 مليار دولار من الإعفاءات الضريبية لإنتاج طاقة الرياح والطاقة الشمسية، والإعفاءات الضريبية للمستهلكين الذين يتحولون إلى منتجات صديقة للبيئة.

وبينما تخطط الولايات المتحدة لاستثمارات ودعم ضخم في اطار سياسة حمائية، ظهر القلق الحقيقي الذي يعتري الضفة الأوروبية للأطلسي ويتجلى في ما يعدّه الأوروبيون “أنانية أميركية” في تطبيق “سياسات عدوانية” سوف تؤدي إلى هجرة صناعية واستثمارية من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأميركية؛ بسبب تكلفة الطاقة المرتفعة في الاتحاد الأوروبي، وهذا ما عبر عنه صراحة الرئيس الفرنسي في كلمة ألقاها أمام الجالية الفرنسية في سفارة بلاده بواشنطن، حينما حذر من خطر أن تذهب أوروبا عموماً، وفرنسا تحديداً، ضحية التنافس التجاري الراهن بين واشنطن وبكين؛ أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.

وبتأثير قانون خفض التضخم الذي أقرّه الكونغرس الأميركي والذي يعدّه الأوروبيون نوعاً من الحمائية المضرّة بصناعاتهم وبقطاعات مثل السيارات الكهربائية والبطاريات والطاقة النظيفة، والمحفزة للشركات على الهجرة من أوروبا إلى أميركا، لذا جاءت الزيارة السريعة للرئيس الفرنسي ماكرون الى الولايات المتحدة، لمناقشة كل هذه القضايا، ومن بينها ازمة الغواصات الاسترالية، التي نشأت بعد تشكيل تحالف عسكري جديد (أوكوس) لاحتواء الصين، في أيلول/سبتمبر من عام 2021، يضمّ كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وبنتيجة هذا التحالف، انسحبت أستراليا من عقد تجاري حربي لشراء الغواصات من فرنسا، وقامت بشراء غواصات من الولايات المتحدة الأميركية بدلاً منه، ما فوّت على الفرنسيين صفقة تاريخية بمئات مليارات الدولارات.

اذن إنها بداية لعملية تفاوض طويلة وشاقة من أجل تقسيم العمل بين أوروبا وواشنطن فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية والدفاع، ولتبديد هذه المخاوف من المتوقع أن تلعب الولايات المتحدة دورا إيجابيا في تسعير الغاز، لتبديد مخاوف أوروبا من أزمة الطاقة، خاصة في ظل الوضع الراهن الذي يقتضي مجابهة الغزو الروسي في أوكرانيا، حيث يقوم الاوربيون بشراء الغاز من الولايات المتحدة الأميركية بما يعادل أربعة أضعاف سعر الغاز الروسي (الرخيص) الذي ساهم في النهضة الاقتصادية الأوروبية في وقت سابق،

فعلياً غادر ماكرون الولايات المتحدة بخفي حنين، بعدما وعده بايدن بمحاولة إدراج أوروبا في المعونات الاقتصادية التحفيزية، لكن بدون خطة تطبيقية واضحة حول كيف سيقوم الأميركيون بذلك…

وعليه، تجد أوروبا نفسها اليوم أمام معضلات كبرى، وخيارات أحلاها مرٌ؛ فلا هي قادرة على الاستقلال عن الولايات المتحدة كما كان يطمح ماكرون سابقاً خلال ولاية ترامب، ولا هي قادرة على العودة عن نظام العقوبات الذي فرضته على روسيا وأضرّ بالاقتصاد الأوروبي بشكل فادح، ولا هي قادرة على إنهاء الحرب الأوكرانية ودفع أوكرانيا إلى مفاوضات سلام مع موسكو، ولا هي قادرة على جعل الولايات المتحدة تأخذ بعين الاعتبار مصالح الأوروبيين خلال سعيها لتحقيق مصالحها الخاصة.