قاتل طفل فلسطيني يعاقب بالتوبيخ

جاء في الأنباء، أن محكمة عسكرية إسرائيلية قضت على جندي إسرائيلي بعقوبة التوبيخ، على فعلته المتمثلة بقتل طفل فلسطيني عمره سنتان. وادعت المحكمة العسكرية أن قتل الطفل الفلسطيني كان على سبيل الخطأ غير العمدي، وبرأت ساحة الجندي الإسرائيلي. حينما وصل إلى مسامعي هذا الخبر قفزت إلى ذاكرتي كل صور القتل الإسرائيلية بكل أدواتها المتخيلة وغير المتخيلة على مدى أكثر من خمسة عقود زمنية. وكيف لجيش يصف نفسه بالأخلاقي ويتغنى بطهارة سلاحه أن يبرر قتل طفل عمره عامين، وهل أفعال قوات الأمن الإسرائيلية مبررة مهما طالت ومهما كانت، وهل حكم على الشعب الفلسطيني أن يدفع ثمن الخوف والجبن الإسرائيليين بحياته. والأنكى وأمر أن يحكم على القاتل بجزاء تكديري هو التوبيخ. وكم بلغ الإستهتار الإسرائيلي بحياة الفلسطيني وكم انحط السلوك الإسرائيلي باحترام قيمة الحياة وهي الأسمى. فلتسقط العدالة إن كانت على هذا النحو وهذا الشكل.


ليس أول طفل فلسطيني ولن يكون الاخير الذي يقتل بنيران القوات الإسرائيلية. فقد درجت قوات الإحتلال على قتل الأطفال الفلسطينيين حيث لا تعترف بميثاق حماية الطفل العالمي لعام 1989، ولا بانطباقه على الأطفال الفلسطينيين، سواء أكانوا تحت الإحتلال العسكري المباشر، أو تحت السلطة الإسرائيلية المدنية. فمنذ عام 1967 قتلت القوات الإسرائيلية مئات الأطفال الفلسطينيين بذريعة أو بأخرى.

لم تتوقف عملية القتل الإسرائيلية الممنهجة عند رجال المقاومة الفلسطينية، بل شملت نساء حوامل وغير حوامل وشيوخا أبرياء، واطفالا ذوي احتياجات خاصة مثل إياد الحلاق، ومن به صمم ومن لا يسمع، بل شملت عمليات القتل فلسطينيين أبرياء في حوادث سير، غمّ عليهم طريق النجاة فعاجلهم الموت العنصري المقصود. حتى من اعتكف في مسجد أو تبتل في محراب، أو تسامر مع أهل بيته، نالته يد المنون الإسرائيلية هو واسرته وأصدقائه ورفقائه بدون أدنى تمييز أو تفريق.

وامتدت يد القتل الإسرائيلية من المذابح الفلسطينية في دير ياسين والطنطورة وكفر قاسم، إلى مدرسة بحر البقر والطلاب المصريين فيها ، وفي مجزرة قانا حيث قتل 106 مدنيين لبنانيين في الجنوب اللبناني على يد شمعون بيرس صاحب جائزة نوبل، واردنيون في المدن الأردنية كالسلط وجرش، وعلماء مصريين وعراقيين وسوريين، وممثلي المقاومة الفلسطينية في بقاع العالم المتعددة.

ورغم أن أولى الوصايا العشر تنهى عن القتل وتحظره، والأديان السماوية تحرمه”ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق”، ومواثيق حقوق الإنسان تحميه بكل أدواتها، والقانون الدولي الإنساني ما قام إلا لحماية الحق في الحياة لسكان المناطق المحتلة من مدنيين وعسكريين، تنتهج قوات الأمن الإسرائيلية من جيش وشرطة ومخابرات سياسة القتل بوسائل مختلفة ومتعددة جوا وبرا وبحرا.

ولا تنتظر اليد الإسرائيلية الممدودة للقتل ترخيصا قضائيا كما هو مطلوب في كل دول العالم، كما هو الحال في الإعدام، بل تقتنص اية فرصة سانحة من مخبر مجهول ليلا أو نهارا، فجرا أو مساء، لإعمال سياسة التصفية الجسدية، ولو كانت جميع أسرة المطلوب رأسه، حاضرة في بيته أو تتسامر معه، أو تنام برفقته، حتى لو أدى ذلك لقتلهم جميعا، وبالمقابل تراهم يتغنون بإنذار الغير لإخلاء المكان.

وتراهم يرفقون عملية القتل لاحقا بهدم منزل القتيل أو منزل ذويه حتى لو نام ليلة واحدة فيه، أو يتركونه ينزف دما بحجة أنه قد يحمل حزاما ناسفا، أو يعطلون ويمنعون وصول سيارة الإسعاف، وحتى تقديم الإسعافات الضرورية والحيوية له من طبيب عربي أو مسعف عربي.

حتى التعليمات الخاصة بإطلاق النار التي نشرتها الأمم المتحدة باعتبارها إنجيلا لحيثيات إطلاق النار الحية في جميع الدول، باعتبارها الملاذ الأخير لاستعمال القوة المميتة، استبدلتها بتعليمات للجيش الإسرائيلي باستعمال القوة النارية المميتة إذا تعرض الجندي الإسرائيلي للخطر، وكأن خبراء الأمم المتحدة لا يقيمون وزنا للحق في الحياة، فهم غير إنسانيين حيث اشترطوا أن ينذر المعتدي بلغة يفهمها وبصوت عال للتوقف، وأن يوجه السلاح الناري في الهواء بطلقات تحذيرية، وإذا ما أطلقت النيران الحية فان توجه للقسم السفلي للجسد وليس لقسمه العلوي .

تعليمات محددة وواضحة، لا تحتمل اللبس، استبدلها الإسرائيليون بتعليمات مبهمة مرنة غامضة عائمة وغائمة مما يتيح مجالا واسعا للتفسير. فقد يكون مشادة كلامية، أو حركة انفعالية، أو لكمة أو صرعة، او حركة مذلة، أو حجرا، أو لعبة أطفال، أو تجاوزا، فمن يقدر معيار الخطر وجديته ومدى تناسبه مع استعمال القوة النارية المسلحة، وهل يستوي سكين مع سلاح رشاش؟!

وما شجع سياسة القتل الإسرائيلية الممنهجة، عدم وجود جزاء فعال أو عقوبة رادعة للفاعل والشريك والمحرض والمتدخل في هذه الجرائم على اختلاف مسمياتهم ومراتبهم. فالولايات المتحدة مثلا نأت بنفسها عن محاكمة وملاحقة القتلة الإسرائيليين لمدنيين أميركيين لأنهم فقط من أصل فلسطيني وهذا بحد ذاته تمييز عنصري أي جريمة بحد ذاتها.

فالأميركيون لم يلاحقوا ولم يحاكموا ولم يعاقبوا قتلة شيرين أبو عاقلة والكهل عمر أسعد في قرية جلجليا ، رغم مرور وقت طويل على قتلهما. كذلك كان الإتحاد الأوروبي وما زال يتصرف تجاه قوات الأمن الإسرائيلية فيحميهم ويحصنهم من أية مسؤولية رغم إمكانية محاكمتهم . حتى المحكمة الجنائية الدولية التي يفترض أن تكون الملاذ الأول والأخير لمحاكمة القتلة الإسرائيليين بحق الفلسطينيين تقاعست عن هذه المهمة التي توجبها عليها نصوصها. بل إن مدعيها العام كريم خان نأى بنفسه عن توجيه أية تهمة أو تقديم أية لائحة إتهام بحق أي أمني إسرائيلي أو مستوطن أو اي مسؤول إسرائيلي. وننوه هنا بأن إتفاقيات أوسلو لا تجيز البتة محاكمة أي إسرائيلي أمام المحاكم الفلسطينية وعن أي جرم ارتكبه على الأرض الفلسطينية.

أمر محزن بل أمر مثير للأعصاب والشجن الشديد، أن لا يتلقى فاعل الجريمة عقابه وجزاءه حتى يكون عبرة للآخرين، وحتى يكون للعقوبة بقية ردع للغير. وإلا فقدت العقوبة وظيفتها وغايتها. أما الحديث عن توبيخ أو إنذار أو تنزيل رتبة أو خصم من الراتب، أو توقيف للتحقيق لأيام أو نقل أو تقاعد، وما إلى ذلك من عقوبات تكديرية فما هو “إلا ضحك على الذقون” واستخفاف بقيمة الحياة عند الفلسطيني واستعداء ممنهج على حقه الإلهي والطبيعي والإنساني في الحياة ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ).