كتب: عبد الغني سلامة
باختصار شديد، أبرز القوى الإقليمية الفاعلة والمؤثرة في لبنان هي: الولايات المتحدة، وإسرائيل، وإيران، وسورية، والسعودية.. ولكلٍ منها أطماع وأهداف متباينة، لكنها تلتقي عند نقطة توظيف الورقة اللبنانية والفلسطينية لخدمة تلك الأهداف، دون أي مراعاة لمصالح لبنان الوطنية، أو لمصلحة القضية الفلسطينية.. ولكلٍ منها أيضا أدواتها المحلية، وتأثيرها المختلف.
فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني (داخل لبنان) وإضافة إلى أهدافها السابقة، بدأت أميركا ومنذ عهد ترامب، ومن خلال «صفقة القرن» باستهداف المخيمات الفلسطينية، بصفتها الرمزية والمادية، بغرض تصفية قضية اللاجئين، وهنا تلتقي مع إسرائيل في هذا الهدف، وهو تدمير المخيمات، ودفع سكانها للهجرة، تمهيدا لإعادة تعريف «اللاجئ».. ويُضاف هنا أيضا هدف إسرائيل الأزلي المتمثل في إضعاف الدولة اللبنانية، وتشتيت وتمزيق الوجود الفلسطيني، وبث الفتن، واستهداف قوى المقاومة اللبنانية.
أما إيران وسورية فتلتقيان عند هدف «الإمساك بورقة القضية الفلسطينية» من خلال حلفائهما، للهيمنة على القرار الفلسطيني، واحتواء القوى الفلسطينية، واستخدام الفلسطينيين وقودا لحروبهما، تحت شعار محور المقاومة، ولكن بهدف تقوية شروطهما التفاوضية وتحسين مكانتهما الإقليمية.
وبعد خروج القوات السورية من لبنان، تغير الأسلوب السوري وصار لزاما على النظام تغيير أدوات وأسلوب اللعبة، فوجد ضالته في التنظيمات الإسلامية، والتي لم يرد من خلالها الإمساك بالورقة الفلسطينية وحسب، بل ولمواجهة خصومه من القوى اللبنانية.
لكن الدور السوري في لبنان تراجع كثيرا بعد الأزمة التي طحنت بالبلاد لأكثر من عشر سنوات، وبقي الدور الإيراني قويا ومؤثرا.
على أي حال، المقال لا يناقش الدور الإقليمي لسورية وإيران وغيرهما من خلال التنظيمات الفلسطينية (حماس والجهاد)، بل يناقش دور التنظيمات الإسلامية الصغيرة والمحلية في لبنان، وتحديدا في المخيمات، وكيف يتم توظيفها من خلال محركيها ومموليها، وأقصد وكالات المخابرات العربية والأجنبية، تماما كما فعلت مع «داعش»، وغيرها.
وقبل ذلك لنعرف كيف ولماذا تسللت تلك التنظيمات إلى المخيمات الفلسطينية؟ وكيف تقوت وانتشرت؟ ولماذا هم دائما مسلحون؟ ومن يموّلهم ويسلحهم ويوفر لهم جوازات السفر، والحماية والغطاء الديني؟ وما هو برنامجهم السياسي؟
بدايةً، استفادت الجماعات الإسلامية «المعتدلة» في لبنان من مناخ الحرية وأجواء الانفتاح الفكري والثقافي في المجتمع اللبناني، ومن علاقاتها الجيدة مع المؤسسة الدينية الرسمية، ومع مختلف الهيئات والمرجعيات الإسلامية السنية والشيعية، ومن حالة التعاطف اللبناني مع المقاومة، وحجم التأييد والدعم الذي يبديه اللبنانيون للقضية الفلسطينية، ومن وجود تيار فكري أيديولوجي يوفر لهم الأرضية الذهنية والعاطفية لتقبل أفكارهم، ما مكّن هذه القوى من التحرك والتعبير عن رأيها والتواصل السياسي والإعلامي، واستطاعت من خلال تركيزها على العمل الاجتماعي والخيري والمنح التعليمية والمساعدات الغذائية، سدّ بعض الحاجة الاجتماعية وتغطية غياب أو ضعف مؤسسات منظمة التحرير و»الأونروا»، والخدمات التي من المفترض أن تقدّمها الحكومة اللبنانية. وكان هذا النوع من العمل هو مدخلها للوصول للجماهير وكسب تأييدهم.
ومع بروز منظمات أصولية داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان، تضم عناصر من جنسيات مختلفة، ومحاولات تمددها إلى خارج المخيمات، واتهام بعضها بأعمال أمنية واغتيالات وتفجيرات طالت شخصيات ومؤسسات ومرافق لبنانية، تزايد الاهتمام الإعلامي المحلي والدولي بهذه الظاهرة، وقد عبرت أوساط أمنية لبنانية عن قلقها من تعاظم قوتها، ورأت «أن هذه التنظيمات ما هي إلا بنادق للإيجار، تعمل لحساب أنظمة وأجهزة استخباراتية، وأنها امتداد لجماعات أصولية عابرة للقارات».
ويعتبر مخيم عين الحلوة التجمع الأساسي لهذه الجماعات، وقد بات بمثابة الخارطة الأمنية التي تختزل المشهد السياسي المتداخل والمعقد، حيث تختلط فيه الأفكار الثورية بأنواعها المتطرفة والمعتدلة. بحيث إن مصير ومستقبل الوجود الفلسطيني في لبنان يتقرر في هذا المخيم الذي بات ساحة صراعات، وساحة لحروب الآخرين، وصار ملجأ يؤوي المجموعات المتطرفة والخارجين عن القانون والمطلوبين للعدالة. ويتحدث البعض عن «خلايا نائمة» تنشط داخله بسرية، وقد تظهر إلى العلن في أي وقت بحسب التطورات المحلية والإقليمية. ومعلوم أن القوى الأمنية اللبنانية لا تدخل إلى المخيمات الفلسطينية التي تتولى الأمن فيها الفصائل الفلسطينية.
وقد انتشرت المجموعات الأصولية المسلحة داخل المخيمات خلال العقدين الأخيرين، حيث استفادت من ضعف الدولة، ومن ضعف حركة «فتح» في لبنان، ومن حالة التراجع التي ألمت بالحركة الوطنية كلها، فعمدت لاستغلال هذا الظرف لإيجاد هامش لوجودها في المخيم، ومع الوقت أدت هذه التناقضات إلى خلق حالة من توازن الرعب بين جميع الأطراف («فتح» وفصائل منظمة التحرير- «حماس» و»الجهاد» ومعهما بقية فصائل المعارضة – التنظيمات الإسلامية المتشددة)، ومن خلال توازناته والخوف من الآخر أو تجنب المواجهة توفّر للجميع مكاناً للعيش وملاذا آمنا يمكن الاحتماء فيه، فلم يمتلك أي طرف القدرة على الحسم العسكري، ما سمح لهذه التنظيمات أن تتقوى وتتسلح وتفرض برنامجها.
وقد زادت قوة تلك الجماعات، وتوسع نفوذها داخل المخيم فصارت لها مساجدها، وشوارعها ومراكز تدريبها، واستطاعت تعميم مبدأ «الفقه التكفيري»، والذي أدّى إلى مزيد من التصفيات والاغتيالات لمن اعتبروهم «أعداء الإسلام»، وإرساء ثقافة «الهجرة الجهادية».. ولم تسلم تلك الجماعات من الانشقاقات التي عصفت بمعظمها.
وتتباين الجماعات الأصولية في أطروحاتها الأيديولوجية، ودرجة اعتدالها أو تطرفها، وامتدادها التنظيمي ولكن عموما بينها تحالفات معلنة وأخرى ضمنية، وتتفق أكثرها على تكفير فصائل العمل الفدائي الفلسطيني ومناصبتها العداء، وأهم هذه الجماعات: الجماعة الإسلامية، السلفية، حركة التوحيد، عصبة النور، الأنصار، فتح الإسلام، جماعة الضنية، جند الشام.
ستظل المخيمات رمزا للجوء، وذاكرة للنكبة، وعنوانا صارخا لحق العودة، وبدون حل مشاكلها الإنسانية والسياسية لن يكون هناك حل ولن تنعم المنطقة بالأمن، وسيظل مخيم عين الحلوة بالذات عاصمة الشتات الفلسطيني وخزان القلق والاضطراب، كما ظل على الدوام مدرسة كفاحية ومددا للثورة وسندا لها، هذا المخيم دُبر له أمر بليل، وأُريد به سوء، وتكاثرت فيه خفافيش الظلام، ليصبح امتدادا لطورا بورا.
ويجب أن تعي جماهير المخيم قبل غيرها أن تلك التنظيمات مرتبطة بالخارج وتنفذ أجندات لقوى إقليمية لا تضمر للمخيم ولا للبنان إلا الشر، وبرامجها دوغمائية وعدمية لا تصلح إلا لتكريس زعامات محلية تجيد فن الخطابة، ولا تختلف بشيء عن برنامج «العبسي» الانتحاري، الذي فضّل تدمير مخيم البداوي بأكمله فوق رؤوس ساكنيه مقابل لا شيء، لأنه لا شيء بجعبته ولا بجعبة أمثاله إلا الخواء والدمار.