تقرأ جنين إسرائيل بصورة أصدق من ادعاءات تل أبيب، كما تصحح جنين الآن ادعاءات الإنسانية الإسرائيلية كما “يصححها” كل شهيد فلسطيني؛ أن حقيقة إسرائيل لا تكمن في صراعاتها، بل في الناظم الأعلى لصراعاتها: تماسكها الاستعماري. وحيث لم ينجح مشروع الصهر لشعب مخترع أن يخلق مجتمعًا موحدًا، نجحت الوظيفة الاستعمارية في ذلك، وكان من الغريب للوهلة الأولى أن نرى اهتمام المجتمع الإسرائيلي بتوحيد “التصوّر” أو “الحازون”، فأي المجتمعات تمتلك تصورًا واحدًا لمستقبلها أو حتى لحاضرها؟ لكن الغرابة تتلاشى عندما نضع في المركز حقيقة أننا بصدد مشروع استعماري عقائدي، لا يميز بين “التصور” وبين “الدولة” – ومن هنا هشاشة الدولة – وأن العضوية في المشروع العقائدي متوقفة على الهيمنة، أو على الاتفاق السياسي أكثر بكثير مما هي على الهوية المدنية أو الدولاتية، الأمر الذي يفسر خوف الإسرائيليين من “الانهيار”.
مع ذلك، فإن ضعف المشروع العقائدي، أي حاجته لاتفاق سياسي كضرورة وجودية تعوض سيولة الدولاتية يقابل بتماسك استعماري: القيم العميقة للمجتمع الاستعماري.
في دراسة حول “الجيش الفتاك” وهو مفهوم تطور في الدولة العبرية – في أعقاب الجيش الأميركي – وطرحه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق أفيف كوخافي بعيد تعيينه في كانون الثاني/يناير 2019، موضحًا بأنه سيوفر “جيشًا فتاكًا، ناجعًا ومتجددًا”، ظهر أنه تم اختيار ونشر مصطلح “فتاك” على أثر تشخيصه كعنصر جذاب لكل أطياف المجتمع الإسرائيلي، وذلك كجزء من استراتيجية تجنيد شرعية مجتمعية لما يقوم – وسيقوم – به الجيش الإسرائيلي لاحقًا.
يشير البحث إلى أن سيولة المصطلح تفسح المجال لأن تقوم القطاعات الإسرائيلية المختلفة بتفسيره وفق قيمها ومواقفها، استنادًا إلى أن اختيار المصطلح هذا تحديدًا اعتمد على “معرفة عميقة بقيم الجمهور” الإسرائيلي. أي أن مصطلح “الفتك” اختير بسبب قدرته على “إنتاج مؤثرات تعبوية ضمن فئات إسرائيلية مختلفة الخلفية الإثنية والدينية والديمغرافية”.
باختصار، يفيد البحث بأن الجيش الإسرائيلي يعتمد في عنفه المتزايد على شرعيات تخاطب القيم العميقة – وإن كانت مختلفة – للمجتمع الإسرائيلي بفئاته الليبرالية واليمينية، أي أن نجاح وشرعية إيتوس “الفتك” لم تعتمد على سطوة اليمين، بل على قدرة المصطلح على سبر غور القاسم القيمي الأعمق للمجتمع الإسرائيلي بكافة تصدعاته.
من جهة أخرى، تتشابه القطاعات الاجتماعية الإسرائيلية في حاجتها للعنف، قد يرضى بعضها بنموذج حوارة، وقد “يكتفي” بعضها الآخر بنموذج جنين، سيختلفون على درجة مشهدية الفتك، أيها أكثر مشهدية: حوارة أم جنين. قد يختلفون في ذلك، وسيختلفون في مدى الحاجة لانضباط العنف للمؤسسات القائمة، هذا مركز الخصام حاليًا، لكن اثنيهما يحتاجان إلى العنف: يدفع الفلسطيني بالدم ثمن المتطلبات المدنية لتل أبيب ليس أقل مما يدفعه ثمن التطلعات العقائدية للبؤر العشوائية.
يحتاج “الليبرالي” لإدارة حياة طبيعية والازدهار وعقد الصفقات والتعاون الأكاديمي في عواصم البلاد لصراع غير مكلف، يحتاج إلى اختفاء المقاومة الفلسطينية وابتعادها عن إمكانية جباية أي ثمن من المستعمر، ليس أقل مما يحتاج ذلك المستوطن الذي يريد تمدد البؤر العشوائية. على الفلسطيني أن يرتدع عن المقاومة والحضور حتى تستمر تل أبيب في الشعور بخفة الاحتلال وببخس ثمنه إسرائيليًا، لكي “تتحرر” منه. تحتاج تل أبيب أن تتحرر من جنين كجزء من كلفة يومها، لذلك فهي تقتلعها بالقوة، وتمضي في مظاهراتها فخورة.
لكن، للفخر مصادره التي لا تحتاج لساحات خلفية، جنين تعرفها. ونحن نعرف أن لا معنى للحق في الحرية دون الحق للسعي من أجل الحرية. ليتوقف الآن الكلام كله عن “المشاركة” أو “الوطن المشترك” أو الاعتراف بالواقع “ثنائي القومية”، وليفصح أصحاب تلك الخطابات عن مواقفهم بخصوص الحق في المقاومة.