كتب: عبد المجيد سويلم
إذا ما كنتم تتذكّرون، أو ما زلتم تذكرون، فقد حاولت في مقال سابق أن أُلقي بعض الأضواء ــ بقدر ما هو ممكن ومُتاح ــ على دور هذه «المجموعة» وعلى دور زعيمها يفغيني بريغوجين من عدّة زوايا، وخصوصاً لجهة أنّ هذه المجموعة لا تليق بدولة من قيمة وقامة روسيا، ولجهة ما تمثّله من قنبلة موقوتة فيها، ولجهة ما تشكّله من نقطة ضعف في الخاصرة الأمنية الروسية، وكذلك لجهة ما يمكن أن ينجم عن «شرعنة» هذه المجموعة من أخطار اختراقات استخبارية «غربية» لصفوفها من دون ضبطها في الأطر المؤسّساتية المطلوبة.
المهمّ أنّ القيادة الروسية بعد حاثة «التمرُّد»، وما نجم عنها من «صُلحة» أدّت إلى إنهاء «التمرُّد»، وإلى قبول مبدأ الانضباط المطلوب من هذه المجموعة سواء من خلال قبول مبدأ التعاقد الرسمي مع القوات الروسية، أو سواء من خلال تأدية القَسَم، وهو قَسَم الولاء لهذه القوات وللدولة، كما أعلنت عنه الدولة الروسية مباشرة.
فقد جاء حادث سقوط الطائرة التي كانت تقلّ سبعة من القيادة الأولى لـ»فاغنر» بمن فيهم «بريغوجين» ونائبه ديمتري أوتكين لتثير الكثير من التكهّنات حول دور هذه المجموعة، وحول مصيرها، ومصير زعيمها ومساعديه.
الغالبية الساحقة من المراقبين والمتابعين والمهتمّين رجّحت أن تكون المخابرات الروسية قد قرّرت التخلّص من زعماء «فاغنر» لأسباب عديدة، لعلّ من أهمّها على الإطلاق أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان قد نُقل على لسانه قوله: «بأنّه يغفر كلّ شيء إلّا الخيانة»، في إشارة واضحة إلى فعل التمرّد باعتباره أحد أشكال هذه الخيانة.
كما يعود ترجيح هذه الأغلبية الساحقة إلى أنّ هذا النوع من «الخيانة»، حتى ولو أنّ زعيم المجموعة قد حاول التغطية عليها من خلال تصويرها وكأنّها مسألة خلافات مع القيادات العسكرية الروسية، وخصوصاً وزير الدفاع سيرغي شويغو، وقائد أركان الجيوش الروسية فاليري غيراسيموف، وليس مع الرئيس نفسه، فإنّ هذا التمرّد في ظروف «الحرب الدائرة»، وفي ظروف مراهنات «الغرب» كلّه على أحداث داخلية روسية لتغيير مسار هذه الحرب بعد الفشل الكبير الذي مُني به النظام الأوكراني في العاصمة كييف إثر الانهيارات التي شهدتها قواته على كلّ جبهات القتال.. فإنّ هذا النوع من التمرّد يعتبر بكل المقاييس أحد أشدّ أشكال الخيانة خطراً وتأثيراً على الإطلاق.
في المقال السابق حول هذه المجموعة وزعيمها قلنا إن «الغرب» قد أُصيب بخيبة أمل لا نظير لها عندما تراجع زعيم المنظمة عن كلّ تصريحاته بعد أقلّ من 6 ساعات على إطلاقها «المدوّي»، وبعد أن قبل بريغوجين بالوساطة التي أعلنها رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، وذلك لأنّ «الغرب» راهن بصورةٍ كبيرة على أن تشكّل حالة التمرّد التي أعلن عنها زعيم المجموعة آنذاك تصدّعاً وشرخاً قاتلاً في الجسد الروسي، بل وراهن أن يكون هذا التمرّد بداية خلخلاتٍ داخلية روسية يمكن أن تُفضي إلى حروبٍ داخلية، وإلى اضطرابات كانت ستكون حتماً قارب النجاة الذي كان يبحث عنه للخروج من ورطته في أوكرانيا.
أمّا الآن، وبعد أن أعلنت لجنة التحقيق رسمياً أنّ أسماء القتلى التي أُعلنت بعد سقوط الطائرة مطابقة تماماً للقائمة الخاصة بالرحلة، وأنّ الفحص الجيني مطابق لهذه الأسماء، فقد أُغلقت التكهّنات حول مصير زعماء المجموعة، ولم يعد بالإمكان أن «يشطح» أحد بأنّ بريغوجين سيظهر من جديد حسب بعض المصادر.
والمهمّ، الآن، أنّ خيبة الأمل «الغربية» تتكرّر، اليوم، لأنّ المخابرات الروسية بهذا «العمل» ــ إذا صحّت نظرية إسقاط الطائرة على يد هذه المخابرات ــ تكون قد أفهمت «الغرب» كلّه أنّ الدولة الروسية تُحكم سيطرتها الكاملة على البلاد، وأنّ لا مجال لـ»الغرب» لمراهنات من قبيل التمرّد على القوات المسلّحة الروسية.
على العكس من ذلك تماماً، فإنّ بعض الأوساط «الغربية» باتت بعد حادث سقوط الطائرة تتحسّس رأس زيلنسكي، وتتحسّس رؤوس الدائرة المحيطة به، وقد تتحسّس رؤوسها هي نفسها، طالما أنّ المخابرات الروسية استطاعت أن تنهي «التمرّد» في غضون ساعات فقط، وطالما أنّها امتصّت الحادث بحنكة عزّ مثيلها، وطالما أنّ القيادة الروسية قد استطاعت «إغلاق» الملفّ بهذه الدقّة والإتقان.
خيبة الأمل الأولى كانت صدمة مُروّعة لـ»الغرب»، وأما هذه الصدمة حتى وإن كانت أقل دوياً فهي صدمة صامتة من النوع المخيف.
الآن، سيفهم «الغرب» كيف أنّ الدولة الروسية استطاعت على مدى زمني طويل، بطول مدّة هذه الحرب أن تُجابه «الأطلسي» كلّه، وأن تصمد في ظروف عقوبات اقتصادية لم يعرف التاريخ البشري مثيلاً لها، وأن تستنزف «الغرب» كلّه بدلَ أن يستنزفها هذا «الغرب»، وأن يبدأ «الغرب» بفقد السيطرة والتحكُّم في أقاليم كاملة، وفي قارّات بعينها بدلاً من عزل روسيا، ومن محاولة الحدّ من نفوذها، ومن امتداداتها الدولية.
الدولة الروسية أصبحت مع كلّ تحالفاتها الوثيقة والصديقة في مُنازلة كبيرة على الحلبة الدولية، وأصبحت الدول والمنظّمات والتكتُّلات «تتحرّر» رويداً رويداً من القبضة الأميركية، وهي تفتح أمام البلدان النامية إلى جانب الصين، وتقودان معاً حقبة جديدة من التاريخ البشري ستكون أهم ميزاتها وجود (ملاذ دولي جديد) للتخلّص من الهيمنة الأميركية و»الغربية».
الأُحادية القطبية تترنّح بإقرار «الغرب» نفسه وعلى «الغرب» أن يرجع إلى أقوال الرئيس بوتين قبل عدّة سنوات عن الأمن الجماعي، وإلى أقوال الرئيس الصيني شي جين بينغ حول علاقات دولية أكثر اتّزاناً وعقلانية وعدالة في العلاقات الدولية.
حادثة سقوط الطائرة التي كانت تقلّ قيادة مجموعة «فاغنر» ــ بصرف النظر عن كلّ خباياها وملابساتها ــ وسواء كانت حادثة مُدبّرة رسمياً أو استخبارياً(؟!) فقط، فإنها قد تحوّلت واقعياً إلى خيبة أمل لـ»الغرب» كلّه، تُضاف إلى خيبة الأمل المدوّية التي ألمّت بهذا «الغرب» بعد انتهاء واقعة «التمرّد».
أغلقت روسيا هذا الملفّ الخطير ــ ملف «فاغنر» وتبعاته ــ لأنّ «التمرّد» على ما يبدو لم يكن «مجرّد» خلافات بين زعيم المجموعة وبين القيادة العسكرية الروسية، كما جرت بعض المحاولات «الماكرة» لتصويره.
ملفّ فاغنر من زاوية «التمرّد» على ما يبدو من الطريقة التي عالجته به القيادة الروسية في أغلب الظنّ كان اختراقاً غربياً كبيراً، وكاد يكون أكبر من واقعة «تمرّد»، وأخطر بكثير ممّا صوّرته الدوائر «الغربية»، أو حاولت أن توحي بشأنه.
والواقع هو أنّ بوتين، الذي حاول منذ بداية هذا التمرّد أن يظهر متروّياً، ومتأنياً في معالجته.. قد أوكل مهمّة التعبير عن واقعة التمرّد إلى نائب رئيس لجنة الأمن القومي الروسية ديمتري ميدفيديف الذي صرّح في حينه بأنّ الأمر يتعلّق بخيانة واضحة.
أمّا اليوم فقد أوكل الرئيس بوتين مهمّة الإفصاح عن حادثة سقوط الطائرة لنظيره البيلاروسي لوكاشينكو عندما قال: «لم يكن في إطار الاتفاق حول حادثة «التمرّد» أيّ تعهّد بالإبقاء على حياة «بريغوجين» وإنّما إلغاء تقديمه للمحاكمة»؟!
حاول «الغرب» أن يصوّر الحدث وكأنّه «مؤامرة» قام بها بوتين ضد «فاغنر»، ونسي «الغرب» وتناسى أنّ ما حصل ليس سوى الإجهاز على مؤامرة «غربية» تمت تصفيتها في المهد، وقبل أن تستفحل، وقبل أن يكون لها أيّ أثر على معركة التصدّي الإعجازية التي تقوم بها روسيا ضد «حلف الناتو» كلّه، وضدّ منظومات السيطرة والتحكّم «الغربي» بمقدّرات العالم.
وأغلب الظنّ أنّه في قادم الأيّام، وقريبها، أيضاً، ستكشف روسيا عن أسرار هذا الملفّ من ألفهِ إلى يائِه، وستظهر الحقائق التي أحاطت به من كلّ جانب.