حكايات أرضٍ وشعب تروي فصولاً من النكبة الفلسطينية

 بينما تعيش الثمانينية أم خالد خديش، حاضر النكبة الأليم في مخيم بلاطة للاجئين شرق نابلس، تراها تلتفت إلى الماضي الحزين لاستحضار وقائع تهجيرها وعائلتها من قريتهم اجزم (جنوب حيفا)، لتبقى شاهدةً على أحداث أرضها الثكلى، وترقب تحقيق حلميها، العودة إلى بيتها المسلوب، ولقاء ابنها خالد الذي تغيبه سجون الاحتلال عنها منذ اكثر من عقدين.


واعتادت أم خالد الجلوس على عتبة بيتها كل يوم، ترتدي الكوفية التي لا تفارق رأسها ويزين معصمها سِوار علم البلاد، فيَمُر عليها أهالي المخيم والزائرون يلقون التحية، فيما تروي لبعضهم حكاية قريتها المهجرة وشوقها الكبير للعودة إلى أرضها وفِلاحتها، وكذلك الجلوس على شاطئ حيفا الجميل.

ويشتد بها السأم من استمرار عدوان الاحتلال على المخيم وملاحقة أبنائه، وكذلك معاناتها من صعوبة الحياة اليومية، ما يوقف حلمها إلى حين مؤجل، فصارت تودع قوافل الشهداء المارة عنها بين الحين والآخر، باكية على حال شعبنا المأساوي، حيث قالت لـ “القدس” دوت كوم: “ما أحسن النكبة الأولى يا خالتي، والذي نعيشه الآن نكبات جديدة، وأوضاعنا تصعب يوماً بعد يوم”.

وتستذكر خديش حينما قامت العصابات الصهيونية بتهجيرهم قسراً بقوة السلاح، ومن ثم نقلهم بالحافلات إلى سهل مرج ابن عامر، فيما تشتت عائلتها في مختلف المدن الفلسطينية والدول العربية والأجنبية.

وفي يوم ما بعد غياب طويل، استطاعت عبور الحواجز الاحتلالية، لتصل إلى حيفا مع ابنيها في زيارة لأحد أقاربها الذين ظلوا هناك، فوقفت على أطلال قريتها التي تغيرت ملامحها، كما شاهدت من بعيد بيتها الذي يقبع وغيره من بيوت القرية تحت الحراسة المشددة ما منعها من الاقتراب له على حد قولها.

أمل العودة ينتقل بالوراثة
أما اللاجئ ياسر أبو كشك من مخيم الفارعة، يتطلع إلى أمل كبير كان قد ورثه عن أبيه الذي لطالما ترقب العودة إلى قريته أبو كشك (شمال يافا)، وظل متشبثاً بحقه وصابراً رغم قساوة الحياة التي يعيشونها، حيث الاكتظاظ السكاني والظروف البيئية الصعبة بالمخيم.

ويتحدث أبو كشك لـ”القدس” دوت كوم، عن حلم كل لاجئ بالرجوع إلى أرضه، مستذكراً حديث أبيه عن بيتهم القديم في أبو كشك وبيارات الحمضيات وكروم العنب وأشجار الموز والرمان المتجذرة في تربتها الخصبة والتي ترويها مياه نهر العوجا، وكذلك ممارسة السباحة في بحر يافا والذهاب إلى أسواقها الكبيرة.

ويتابع: “إنني أتحسر على هذه الأراضي الساحلية التي سُلبت منا عُنوة، وأيضاً بيت أبي الذي قام ببنائه قبل أن يُهّجر بسنتين، كما أنه لا يزال موجوداً حتى اليوم، لكننا لا نستطع الوصول له لأنه يخضع لسيطرة الاحتلال الذي أقام مستعمرة على اراضي القرية”.

ويستمر نضال اللاجئين في مخيماتهم –وفق أبو كشك-، فيجابهون الفقر والبطالة في سبيل العيش الكريم، وكثير منهم يجلسون بين أربعة جدران في بيت صغير ربما يخلو من النوافذ أو متستراً في ظل بيتٍ آخر يحجب عنه ضوء الشمس وسط مخيم ذي كثافة سكانية عالية تعيش فوق مساحة لا تتجاوز كيلومتر مربع.

كما يواجهون باستمرار اعتداءات جيش الاحتلال على المخيمات في مختلف مدن الضفة الغربية، الذي يرهب الأطفال ويعيث دماراً بممتلكات الأهالي وبيوتهم ما يجعلهم يتداركون مأساة النكبة الأولى.

ويستكمل أبو كشك: “مهما حاول المحتل تمزيق هويتنا الوطنية، وعلاقاتنا الاجتماعية إلا أن معظم العائلات التي هُجرت ومنها عائلتي تعتبر من أكثر العائلات ترابطاً رغم تفرقنا في مختلف مخيمات الضفة الغربية أو اللد والاردن ودول الخليج العربي، وحتى الدول الاجنبية”.

التشبث بالأرض رغم طول البعد
وتأمل اللاجئة رائدة الدبعي، من سكان نابلس، زيارة مدينتها (اللد) التي ازداد تعلقها بها كلما تذكرت أحاديث جدتها عن المدينة، وكذلك ما تعرفه عن كرم أهلها وشهامتهم وشجاعتهم، وبساطة حياتهم قبل النكبة حيث كان جدها يخرج من بيته مع خروج الفجر من بين الظلام ليقطف ثمرة التين ويجلبها من أرضه، وقد أوضحت: “كانت جدتي رحمها الله تميزه عن غيره من ثمار التين في المدن الأخرى”.

وتقول الدبعي: “لم أنسَ يوماً حكايات جدتي عن اللد، وإنني مؤمنة بحقنا بالعودة لأرضنا مهما مر عليها الزمن، وهذا الحق لن يموت ولا يسقط بالتقادم، حتى لو ماتوا كل الكبار ولو نحن متنا، فيأتي ابناؤنا واحفادنا من بعدنا، حافظين تاريخ نكبتنا جيداً”.

وتتابع: “ربما لن تكون عودتنا قريبة في ظل انعدام الحلول السياسية والمؤامرة التي تُحاك ضد شعبنا، ومن بين الدلائل تراجع دور وكالة الغوث الشاهد الدولي الوحيد على نكبتنا”.

وصار العالم أعمى ينظر للفلسطيني بعين واحدة بينما يقف دائماً إلى جانب الطرف الأقوى أي المحتل –بحسب الدبعي-، لذلك لابد من تسخير كل ما يمتلكه الفلسطيني من طاقات وعلم وثقافة في سبيل تحقيق هدف العودة الأسمى، إلى جانب الإيمان القوي بأن هذه الارض لا تقبل القسمة على اثنين، وهي منذ الاف السنين للفلسطينيين كما أنها وعد الله الذي لن يخلف أبداً.

تنشئة وطنية
أما الطفلة رؤى رياحي (12 عاماً) من مخيم بلاطة، ترسخت ثقافتها الوطنية وتعززت هويتها -وغيرها من أطفال المخيمات-، حينما سرد لها أبواها حكاية تهجير أجدادها عام 1948 من قريتهم الجماسين قضاء يافا، بينما استطاعوا زرع الانتماء لتلك الأرض في نفسها حتى بدأ حلم العودة يتشكل في ذهنها.

وتعرب رياحي عن أملها بالعودة إلى قرية جدها، مشيرة إلى أنها ذهبت لزيارة يافا في رحلة لكن لم تشاهد سوى بحرها فقط.

وتتابع: “ما أعرفه عن قريتي بأنها تشتهر بالزرعة وهي جميلة وقريبة من البحر، لكن الاحتلال قام بتهجير كل من فيها منذ النكبة، وبعد ذلك جاء جدي وسكن في المخيم، حيث انني رأيت مفتاح بيتهم وبعضاً من أغراضهم القديمة التي استطاع احضارها معه حينما هُجروا”.

وبهذا الصدد، يلفت عضو المجلس الثوري لحركة فتح ورئيس مركز يافا الثقافي في مخيم بلاطة، تيسير نصر الله، إلى ضرورة تثقيف الاجيال الفلسطينية حول أهمية حق العودة وتوريثهم هذا الحق، قائلاً: “إن حقنا بالعودة يورث كما التراث واللغة، كما أنه مع مرور السنين يزداد لمعاناُ كما الذهب”، مبيناً أن هناك ثلاثة شواهد على قضية اللاجئين وهي: “الاونروا”، واللاجئ، والمخيم.

ويتابع: “المحتل يسعى لقتل هذه الشواهد فهو يحاول إنهاء دور “الاونروا” بصفتها الأرشيف الدولي لمأساتنا المستمرة، كما يستهدف المخيمات لإنهاء الحركة الوطنية وعمل المؤسسات فيها، ما يزيد من الدور الذي يقع على عاتق السلطة الفلسطينية لتعزيز صمود اللاجئ في مخيمه، والنضال من أجل تأمين ميزانية للوكالة التي صارت مطلباً فلسطينياً”.