حسم الصراع بين الوهم وضبابية الاتجاه

كتب: عبد المجيد سويلم

لا توجد مقُولة في الفكر السياسي الإسرائيلي تنطوي، أو باتت تنطوي على خداع النفس، والرغبة في خلط الوهم بالواقع وبالحقيقة كما هي مقُولة «حسم الصراع»، وتصفية القضية الفلسطينية من كلّ جوانبها.
فقد توهّم «اليمين» الإسرائيلي، ولحق به كلّ من هبّ ودبّ من أوساط «الوسط» و»اليسار» بأنّ «إدارة» الصراع قد استنفدت فعلها في مَعمَعان الصراع بين مُكوّنات المشروع الصهيوني، الفكرية والثقافية، وتجلّياته السياسية والحزبية، وذلك لأنّ «وقائع» وواقع هذا الصراع قد «أنضج» ومهّد الطريق أمام التقدّم باتجاه الحسم.
تولّدَ وهمُ حسم الصراع في سياق التحوُّلات التي أفضت في السنوات الأخيرة إلى صُعود التيار الفاشي، وإلى «تسيُّد» مقولاته الفكرية والسياسية فيما يتعلّق بمفاهيم هذا الصراع، وفيما يتعلّق «بالإجماع» الصهيوني الجديد حول «أرض إسرائيل الكبرى أو الكاملة»، أو فيما يتعلّق بالتوافق الضمني بين مُكوّنات المشروع الصهيوني على «منع» قيام دولة فلسطينية، والنفي المُطلق والجَماعي الشامل لمسألة «الحق» بالعودة، وفي «الالتزام» الإجماعي التام حول القدس كـ «عاصمة واحدة ومُوحَّدة لدولة الاحتلال».
ترافقَ وتزامنَ هذا التحوُّل الهائل مع معطيات دولية وإقليمية، وأخرى «فلسطينية» أصبحت تُشجّع كل الأطراف المُكوّنة للمشروع الصهيوني على الاعتقاد بأنّ الانتقال من دائرة «إدارة» الصراع إلى حسمه، ليس مجرّد أنّه بات «ممكناً» فقط، وإنّما بات «ضرورياً»، أيضاً.
وكانت المرحلة «الترامبية» قد وضعت أُسس هذا الانتقال، وكان «الانسياق» التام للإدارة «الديمقراطية» الأميركية قد أصبح وتحوّل إلى «أعلى» درجات التشجيع للذهاب بعيداً في مسألة «حسم الصراع».
إذ لم تتّخذ الإدارة الأميركية في عهد الرئيس جو بايدن ولا حتى خطوة واحدة لإظهار رفضها    لـ «الترامبية»، ولم تُقدِم سوى على ما أنعش المجتمع والدولة في إسرائيل على هذا الانتقال.
أمّا من حيث الواقع الإقليمي فقد تزامنت هذه التحوُّلات مع عمليات تطبيع غير مسبوقة بين إسرائيل وأربعة بلدان عربية لم تشترط على إسرائيل أيّ التزامات بالقانون الدولي والشرعية الدولية، وأبقت هذه المسائل الفائقة الأهمية والجوهرية في إطار «الإحسان» الأميركي، و»التعاطف» الأوروبي، و»طارت» بموجب عمليات «التطبيع» الجديدة كافّة المعايير والضوابط التي كانت تربط ما بين مثل هذا «التطبيع» بل وكانت تشترط، أيضاً، الوصول إلى «حلّ» سياسي قائم على القانون الدولي والشرعية الدولية، وحيث كانت «مبادرة السلام العربية» هي التعبير عن هذا الالتزام، وهذه الشروط.
وأمّا فلسطينياً فقد «شعرت» إسرائيل بأنّ الانقسام قد «تأبَّد» وأنّ «الحل» الاقتصادي قد تحوّل إلى الحلّ الممكن، وربّما الوحيد، أيضاً.
وشجّع الواقع السياسي الهشّ في فلسطين الأطراف الإسرائيلية على المضيّ قُدُماً وسريعاً في خطط «الإبقاء» على هذا الانقسام بأيّ ثمن، حتى وصلت الأمور إلى السماح للأموال القطرية بالمرور من المطار تحت أعين أجهزة الأمن وأذرعها، وانتشرت مقولات «الدُويلات» السبع، وأصبح «الحديث» عن القوى القبلية والحمائلية والعشائرية هو الحديث الرئيس عن الأدوار السياسية في «الضفة» مستقبلاً، وأصبح «التعايش» مع حكم «حماس» بمثابة مُسلَّمة سياسية، وأحد ثوابت السياسة الإسرائيلية في كامل العقد الماضي، دون التخلّي عن سياسة الضرب كلّما رغبت إسرائيل بتجريب أسلحتها على قطاع غزة، وكلّما «رأت» أن تنامي «التسلُّح» الفلسطيني في القطاع قد تجاوز الحدود التي يتطلّبها هذا التعايش.
«اليمين» في إسرائيل اعتاش على هذه الأوهام، و»الوسط» وفلول «اليسار» أرادت أن تُبقي نفسها في وسط ميدان السياسة، وفي دائرة «الوعي الإسرائيلي» والتحقت بالرَّكب «اليميني»، وأصبح كلّ مُشكّك بهذا الوهم يُصنَّف في إسرائيل على أنّه إمّا مُتطرّف ساذج، أو مَعتوه سياسي أو خائن لـ»الأُسُس والمُثل» الصهيونية.
لم يخطر ببال «اليمين» في أتُون «نشوة» صعود «الصهيونية الدينية»، وفي سَعير بحث نتنياهو عن «مخارج قانونية» لتصفية دور القضاء الذي قد يُحاكمه أو يُصفّي حياته السياسية، ولم يخطر ببال حزب «الليكود» كذلك أنّه سيتحوّل من الحزب الحاكم إلى حزب المطيّة، وأنّ «اليمين الجديد» لن يقبل بأقلّ من دولة الشريعة اليهودية، «مُزيّنة ومرصّعة» بأشكال «ديمقراطية» مؤقّتاً فقط، وإلى أن يحين الوقت المناسب «لتحييدها».
ولم يخطر ببال قوى «المركز» وفلول «اليسار» أنّ حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني يحتاج أوّلاً وقبل حسم أيّ صراع آخر أن يُحسم الصراع مع «اليمين» الفاشي، ومع كلّ مساعديه، ومع كلّ مفاهيمه وأفكاره ومنظومته الفكرية والثقافية.

تماماً كما توهّم «اليمين» بأنّ الإجماع والتوافق على الانتقال من «إدارة» الصراع إلى حسمه يحتاج قبل كلّ شيء إلى تجريد قوى «المركز» وفلول «اليسار» من جوهر النظام الديمقراطي الصهيوني لكي يُصار إلى حسم الصراع مع كلّ ما هو مدني، وكلّ ما هو «ديمقراطي» صهيوني، ومع كلّ القيم التي تؤمّن «الآليات» الديمقراطية لتداول السلطة أوّلاً، ولضمان عدم «المسّ» بقيم وأُسس ومثل الدولة الديمقراطية القائمة في بعض بلدان «الغرب»، بصرف النظر عن مستوى «التوحُّش» الذي وصلت له هذه الدولة في العقد الأخير من حُكم وسطوة «الليبرالية الجديدة» فيها.
ولم يخطر ببال أحدٍ منهم أنّ الشعب الفلسطيني يقف لهم بالمرصاد، وأنّه مُصمّم على نيل حرّيته واستقلاله الوطني، ويملك إرادة ثبت أنّها لا تُقهر على نيل كلّ حقوقه، وتحقيق كلّ أهدافه.
ولم يخطر ببال قيادات جيش الاحتلال، وأذرعه الأمنية، وكلّ أنواع المستوطنين أنّ هذا الشعب يمكنه اجتراح المُعجزات، وأنّه قادر على قلب الأُمور رأساً على عَقِب في لحظات تبدو فيها الأُمور وكأنّها محسومة لصالح إسرائيل، ولصالح سياساتها وإستراتيجيّاتها.
«اليمين» الفاشي يزداد شططاً، و»اليمين» المتطرّف لا يملك سوى أن يُجاريه، و»المركز» و»الفلول» يُتابعون «معركة» القضاء وكأنّ هذا «اليمين» الفاشي لم يأتِ، ولم يصعد، ولم يتغوَّل على خلفية حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني، وما زالوا ــ يا لعبقريتهم السياسية ــ يعتقدون أنّ المعركة هي معركة «ديمقراطية»، «داخلية»، ليس لها علاقة من قريبٍ أو بعيد بالاحتلال، وبمنظوماته وآلياته وقيمه، ومستوطناته ومستوطنيه.
لم يخطر ببال هؤلاء، كلّ هؤلاء أنّ حسم الصراع قد تحطّم على صخرة صُمود الشعب الفلسطيني، وأنّ حسم الصراع دخل في مُختنقٍ إستراتيجي، وأصبح حسم الصراع الداخلي في دولة الاحتلال هو مأزق هذا الحسم، وأنّ هذا الحسم بالذات قد تحوّل إلى مأزق المشروع الصهيوني نفسه، وأنّ الحسم في هذا الصراع بالذات هو المستحيل السياسي الأوّل في إسرائيل، وهو الحسم الذي سيُوازي بكلّ التقديرات «التآكل» الكبير في الجسد الصهيوني، وقد لا تحسم المسألة حتى بما يشبه الحرب الأهلية، وحيث إنّ حوالى الثلثين من الشعب الإسرائيلي بات يتوقّعها وينتظرها، أيضاً.
منذ سنة أو سنة ونصف على أبعد تقدير كان «حسم الصراع» يبدو في [ألقه وكامل هيبته]، وكان يبدو وكأنّه الاتجاه الغالب، بل إن بعضنا اعتقد أنّ لا مردّ له، وأنّه يسير بُخطى كبيرة نحو تحقيق أهدافه.
فهل يستطيع أحدٌ في إسرائيل اليوم أن يُوضح لنا كيف سيُحسم هذا الصراع، وبأيّ اتجاه يا تُرى سيتمّ هذا الحسم؟
حسم الصراع دخل في أزمةٍ لا مخرج منها، لأنّ الأزمة الإسرائيلية نفسها لا حلّ لها، وإذا قُّدّر للصراع الداخلي في إسرائيل أن «يُحسم» فهو «سيُحسم» في اتجاه معاكس تماماً للاتجاه الذي أرادته إسرائيل، أو أنّه سيبقى يُراوح في نفس الدائرة التي يُراوح فيها المشروع الصهيوني المأزوم.