ثلاث عمليات فدائية قد تغير خريطتي “الشرق الأوسط” السياسية والعسكرية؟

لنبدأ من الآخر، ونبتعد عن التفاصيل، ونركز على المستقبل، ونؤكد اننا توصلنا الى نتيجة مفادها ان العمليات الفدائية الثلاث التي نفذها أربعة شبان فلسطينيون، سواء من الضفة الغربية، او المناطق المحتلة عام 1948 تؤرخ لنهاية مرحلة وبداية أخرى، مختلفة تماما، انه سيناريو انتفاضة مسلحة ثانية ربما تكون عملياتها اكثر شراسة من سابقتها الانتفاضة الثانية التي اندلعت احداثها بعد فشل لقاء كامب ديفيد في عام 2000 كرد على المؤامرة الامريكية الإسرائيلية في حينها لتشريع تهويد القدس المحتلة، وإلغاء حق العودة.
الشعب الفلسطيني وجيله الجديد العملاق، قرر ان يعتمد على نفسه ويثور على هذا الوضع المزري الذي يعيشه، ويطيح بمعظم قياداته المتخاذلة، ويتعامل مع الاحتلال المتغطرس باللغة الوحيدة التي يفهمها او يخشاها، لغة المقاومة والشهادة، فلم يعد لديه ما يمكن ان يخسره غير التهميش والهوان والاذلال بأشكالها كافة.
***
هناك عدة نقاط تؤكد ما ذكرناه آنفا حول هذه النقلة التاريخية النوعية للمقاومة الفلسطينية الجديدة في العمق الإسرائيلي من خلال العمليات الثلاث:

الأولى: هذه هي المرة الاولى التي يستطيع فيها شاب فلسطيني قتل أربعة مستوطنين في مدينة بئر السبع بسكين، وليس بسلاح ناري، الامر الذي ينطوي على جرأة وكم من الغيظ والرغبة في الثأر غير مسبوقين، ولو كان يملك سلاحا ناريا لختلفت النتيجة حتما.

الثانية: استخدام أسلحة نارية، وبنادق آلية في العمليتين الثانية “الخضيرة”، والثالثة “وسط تل ابيب”، كشف حقيقة ان معظم القتلى الإسرائيليين كانوا من الجيش او الشرطة او حرس الحدود، ولو أراد المنفذون التركيز على المدنيين لكانت اعداد القتلى بالعشرات ليس 11 فقط، ولعل شهادة المستوطنة الإسرائيلية التي قالت ان منفذ عملية تل ابيب قال لها ابتعدي اننا لا نقتل النساء هي الدليل الساطع الذي يكشف عن قيم المقاومة.

ثالثا: العمليات الهجومية لم تكن عفوية فردية، بل نتيجة تخطيط تقف خلفه حركة مقاومة، فعملية الخضيرة (الثانية) وقعت في الذكرى العشرين لعملية الخضيرة الأولى التي هاجم فيها فدائيون فندق “نتانيا بارك” في عيد الفصح وادت الى مقتل 30 إسرائيليا.

رابعا: ضياء حمارشة منفذ عملية وسط تل ابيب، مساء يوم امس (الثلاثاء) وصل الى هدفه بسيارة تحمل أرقاما إسرائيلية صفراء، وكان مزودا ببندقية آلية أمريكية الصنع من طراز “ام 16” التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، الامر الذي يرجح احتمالين، ان يكون تم شراؤها من احد الجنود او جرى تهريبها عبر الأردن، او مصر اللتين يملك جيشهما هذا النوع من البنادق الآلية، وفي الحالتين تشكل هذه الحقيقة اختراقا امنيا خطيرا للأجهزة الإسرائيلية.

خامسا: سارعت السلطات الاسرائيلية الى محاولة الصاق هذه العمليات الفدائية الثلاث بتنظيم “الدولة الاسلامية”، او “داعش”، لتشويه صورة المنفذين أولا، وحصد التعاطف الدولي، ولكن الحقيقة قد تكون مغايرة لذلك تماما، فالقضية الفلسطينية، تحتل مكانة متدنية على سلم اولويات تنظيمي “القاعدة” الان و”داعش” الفرع.

سادسا: الانتفاضة المسلحة القادمة التي بدأت تتبلور فعالياتها بشكل عملي ميداني، لن تستهدف الإسرائيليين وكيانهم فقط، وانما الحكومات العربية التي تبالغ في التطبيع لحد الابتذال والسقوط في التقرب لهم، والارتماء تحت اقدامهم، دون ذرة خجل او حياء، ولم يكن من قبيل الصدفة ان العمليتين الأخيرتين، الخضيرة وتل بيب جاءتا ردا على “قمة” النقب بمشاركة أربعة وزراء خارجية عرب (مصر، المغرب، الامارات والبحرين)، بدعوة “استجلاب” من يائير لابيد وزير الخارجية الإسرائيلي، وتحت رعاية انتوني بلينكن، نظيره الأمريكي، وكان منظر تشابك الايدي في الصورة الختامية للاجتماع مقززا واستفزازيا.

سابعا: اثبتت التحقيقات الإسرائيلية الأولية في وقائع هذه العمليات الثلاث، ان منفذيها، والجهات، او الجهة، التي تقف خلف منفذيها ومخططيها، اثبتوا قدرات تنفيذية ومعلوماتية هائلة اكثر تقدما بمراحل عن أجهزة الامن الإسرائيلية التي تتباهى بإنجازاتها في هذه المضمار، وتعمل على تصدير خبراتها الى مختلف دول العالم، وتجني من وراء هذه الاكذوبة مليارات الدولارات سنويا.

هذه العمليات الثلاث اعادت القضية الفلسطينية الى مكانتها في مقدمة الاهتمام العالمي، وكادت ان تتفوق على حرب أوكرانيا العالمية، بعد ما يقرب من ثلاثين عاما من التهميش والخداع والتضليل والمفاوضات العبثية واعمال القتل والاستيطان.
الإسرائيليون، حكومة وشعبا، اعتقدوا مخطئين ان الشعب الفلسطيني استسلم، وركع، وباتت قمة طموحه تصريح عمل لتنظيف مراحيض المستوطنين في تل ابيب، ان الشعوب العربية على دين حكوماتها المطبعة المنبطحة، وجاء هؤلاء الفدائيين الشبان، وعملياتهم المزلزلة، بمثابة جرس ايقاظ، وانذار في الوقت نفسه، بأن سنوات العسل الإسرائيلية مع المطبعين المستسلمين، اوشكت على الانتهاء، ان لم تكن قد انتهت فعلا، وكانت البداية معركة “سيف القدس” في آيار (مايو) الماضي التي اذلت الجيش الإسرائيلي وقببه الحديدية التي يعتزم بعض عرب الخليج شراءها، وعزلت صواريخها الباليستية المصنعة في القطاع الدولة العبرية عن العالم احد عشر يوما.
***
نفتالي بينيت رئيس الوزراء الإسرائيلي كان مصيبا عندما قال “إسرائيل تقف امام موجة “إرهاب” عربي قاتل غير مسبوقة منذ ست سنوات” ونحن نصحح ونقول انها ليست موجة إرهاب وانما مقاومة مشروعة للاحتلال، مرشحة للاستمرار حتى نهايته.
نختم هذا المقال بحقيقة ثابتة بدأت تتبلور تؤكد ان “العملاق الفتحاوي” المنشق عن سلطة الهوان في رام الله، ويمثل النسخة الوطنية الجديدة، نزل الى الميدان، ومعظمه من الشباب، الذي يريد احياء ارث الكرامة والفداء الى حركته الرائدة، والتنسيق مع فصائل المقاومة الأخرى على أرضية التصدي للاحتلال، واحياء كتائب شهداء الأقصى التي جرى حلها بعد توقيع اتفاقات أوسلو رضوخا لبنودها الكاذبة بالسلام، ولهذا فإن المقاطعة في رام الله باتت من الماضي، واصبحت العنوان الخطأ لتمثيل الشعب الفلسطيني فمن يدين عمليات المقاومة الثلاث ويصف من نفذوها بالارهابيين، لا يحق له الحديث بإسمها.. والأيام بيننا.