كشف تقرير استقصائي لمؤسسة “دان ووتش” وصحيفة “إنفورماسيون”، أنّ الدنمارك ربما تجد نفسها أمام اتهامات خطيرة بمساعدة دولة الاحتلال الإسرائيلي على ارتكاب جرائم حرب في عدوانيها على غزة عامي 2021 و2022، باستخدام تقنيات وأجهزة دنماركية في طائرات “أف 35”.
واستعان التقرير بخرائط تربط بين التكنولوجيا الدنماركية التي تقدمها شركة “تيرما” للصناعات العسكرية المثيرة للجدل (قرب مدينة آرهوس، وسط غرب) المتعاونة مع شركة لوكهيد مارتن الأميركية بإنتاج تقنيات ومعدات “أسفرت عن قتل 75 طفلاً فلسطينياً”. وأشار معدو التقرير إلى أنّ ذلك “يجعل الدنمارك على حافة انتهاك التزامها بالقوانين الدولية”.
وكانت منظمات حقوق الإنسان، بما فيها “هيومن رايتس ووتش” والعفو الدولية (أمنستي)، قد دعت مراراً حكومة كوبنهاغن، في أعقاب عدواني 2021 وأغسطس/ آب العام الماضي، إلى ضرورة التصرف بوقف أنشطة “تيرما” وتصديرها لتلك التقنيات التي تساهم بسقوط الضحايا من المدنيين الفلسطينيين.
وعلى ضوء الاتهامات الموجهة لكوبنهاغن، دعا مسؤول قسم السياسة في “أمنستي” مارتن ليمبرغ بيدرسن، إلى ضرورة “وقف المجتمع الدولي، بما في ذلك الدنمارك، الصادرات المباشرة وغير المباشرة للأسلحة والذخيرة والمعدات الأمنية للجيش الإسرائيلي على الفور”، وذلك في أول تعقيب على التقرير الذي نشر، أمس الثلاثاء.
ويظهر التقرير، بالاعتماد على بيانات جيش الاحتلال وما نشر في وسائل الإعلام والمواقع الرسمية، مشاركة “أف 35” في عدوان مايو/ أيار عام 2021 الذي استمر 11 يوماً. واستناداً إلى أرقام الأمم المتحدة، فقد “قُتل في تلك العملية 261 فلسطينياً، ومن بينهم ما لا يقل عن 130 مدنياً، 67 منهم كانوا أطفالاً”.
ونقل معدو التقرير أيضاً عن “هيومن رايتس ووتش” اعتبارها العديد من الغارات الجوية على أنها “تبدو كجرائم حرب صريحة، حيث قتل المدنيون الفلسطينيون رغم أنهم لم يكونوا على مقربة من الأهداف العسكرية”.
وسرى ذلك على عدوان العام الماضي 2022، حيث جرى أيضاً توثيق مشاركة “أف 35″، كما ذكر سلاح الجو الإسرائيلي بنفسه، ووفقاً لمنظمة العفو الدولية (أمنستي) فقد قتل 32 فلسطينياً على الأقل، وبعضهم من الأطفال.
سبق الكشف عن الدور الدنماركي في جرائم الاحتلال دعوات من “أمنستي” و”رايتس ووتش” إلى ضرورة وقف صادرات الدنمارك العسكرية إلى الاحتلال.
ونقل معدو التقرير عن مدير “هيومن رايتس ووتش” في فلسطين ودولة الاحتلال عمر شاكر، أنه “كان على السلطات الدنماركية أن تتوقع أن المعدات الدنماركية قد تُستخدم خلال الهجمات غير القانونية في غزة”.
وشدّد شاكر على أن “هذه الانتهاكات ممارسة لفترة طويلة، وأي إجراءات أساسية واجبة على الحكومة (الدنماركية) كانت ستظهر أن هناك خطراً واضحاً من احتمال استخدام هذا النوع من الصادرات العسكرية إلى إسرائيل في هجمات خطيرة”. ولفت أيضاً إلى أنّ منظمته “وثقت جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لقوانين الحرب، بما في ذلك استخدام الأسلحة المتفجرة في مناطق مكتظة بالسكان، وهجمات عشوائية وهجمات على أهداف مدنية دون هدف عسكري”.
وتعد هذه المعلومات التي يكشفها التقرير، بحسب معديه وقانونيين متخصصين، يعيد التأكيد على ما ذهبت إليه تقارير الأمم المتحدة في 2009، بعيد عدوان نهاية 2008 وبداية 2009، عن “شكوك مبررة بارتكاب جرائم حرب من قبل الجيش الإسرائيلي”. وهذا يشمل أيضاً المعدات والتقنيات التي كانت وما تزال تصدرها شركة تيرما الدنماركية للصناعات العسكرية.
وفي عام 2015، خلُصت لجنة تحقيق شكلتها الأمم المتحدة إلى أنّ “المعلومات الجوهرية تشير إلى جرائم حرب محتملة”. كما أعلنت لجنة التحقيق عن قلقها إزاء القصف الإسرائيلي للمناطق المكتظة بالسكان، والذي “يُرجح بدرجة كبيرة” أنّ يصيب المدنيين “بشكل عشوائي”.
وحتى المدعون في المحكمة الجنائية الدولية توصلوا في عام 2021 إلى “وجود أساس معقول للاعتقاد بارتكاب جرائم حرب ارتكبت أو تُرتكب في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية وقطاع غزة”. ويرفض الاحتلال التعاون مع تحقيق المحكمة الجنائية الدولية.
وما يطرحه التقرير أمام السلطات الدنماركية، بالإضافة إلى التحقيقات الأممية، يعد نقلة أخرى في اتهامها بالمساهمة في “التصرف بشكل غير قانوني من خلال السماح بتصدير أجزاء للطائرة الإسرائيلية من طراز أف 35 (F-35)”، وفقاً لمعديه والخبراء القانونيين.
وفي هذا السياق، ذهب الأستاذ المساعد للقانون الدولي في أكاديمية الدفاع في كوبنهاغن إلى القول لمعدي التقرير: “تتحمل الدنمارك خطراً قانونياً عندما تسمح بتصدير أسلحة أو أجزاء من الأسلحة إلى بلد يُعرف فيه جيداً أنّ هناك تحديات في الامتثال لقوانين الحرب”.
ومع أنّ الدنمارك تدعي التزامها بالقوانين الأوروبية من عام 2008، التي تنص على قواعد تصدير الأسلحة أو تقنياتها بحيث يتوجب على السلطات “رفض تصريح التصدير إذا كان هناك خطر واضح لإمكانية استخدامها في ارتكاب انتهاكات خطيرة للقانون الدولي، أو أنّ المستلم سيستخدم المعدات بشكل عدواني ضد دولة أخرى أو للدفاع عن مطالبة إقليمية بالقوة”، إلا أنّ الاتهامات تلاحقها في غض الطرف عما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي من خلال ما تسمح بتصديره إليها، وهو ما يشير إليه عدد من القانونيين الذين يخشون من أنّ الدنمارك ستجد نفسها أمام مساءلة مستقبلية.
بل إنّ تقرير “دان ووتش” و”إنفورماسيون” يذهب صراحة إلى اتهام سلطات الدنمارك بأنها تنتهك المعاهدة الأوروبية ومعاهدة الأمم المتحدة لتجارة الأسلحة (2014)، حيث ذكر أستاذ القانون الدولي في كلية أبردين للقانون في اسكتلندا والخبير في قواعد مراقبة الصادرات زيراي يديغو، معقباً على التقرير أنّ “ذلك يطرح أسئلة عما إذا كانت الدنمارك امتثلت للقواعد الدولية”.
وأشار يديغو إلى أنّه “مع التقارير العديدة التي تم نشرها والمناقشات التي جرت، من بين أمور أخرى، في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، يصعب على السلطات الدنماركية الادعاء بأنها ليست على دراية بالمخاطر التي قد تتعرض لها الأجزاء والمكونات ستُستخدم في الطائرات الإسرائيلية من طراز أف 35 لارتكاب جرائم حرب محتملة”.
ويطرح التقرير مجدداً معضلة أمام سلطات الدنمارك، في أجواء تفاصيل كثيرة ومثيرة طرحت عن استخدام تقنيات البلد في قصف المدنيين الفلسطينيين. ورفض وزير خارجية الدنمارك (ورئيس وزرائها السابق) لارس لوكا راسموسن، التعقيب (حتى صباح الأربعاء) على التقرير الذي جاء في وقت حرج لدولة الاحتلال، وخصوصاً لناحية التعاطي الإعلامي والصحافي مع ما يجري فيها، بشكل سلبي وأسئلة غير مسبوقة عن مستقبلها وعن حقيقة “الديمقراطية الوحيدة” في المنطقة، كما جاء في افتتاحيات صحف عدة.
وعلى ضوء ما وضعه التقرير من توثيق شامل لكيفية استخدام طائرات “أف 35” بقطع وتقنيات دنماركية، يتوقع مصدر برلماني من اليسار، في تصريح خاص لـ”العربي الجديد”، أنّ يجري “طرح القضية برمتها أمام حكومة الائتلاف الحاكم بين يسار ويمين الوسط (برئاسة رئيسة الحكومة ميتا فريدركسن)، على أمل أنّ تناقش القضية بشكل عميق في اجتماعات لجنة السياسات الخارجية في البرلمان في القريب العاجل، وعلى أساس توقف الدنمارك عن خرق اللوائح الدولية”. وتضغط أحزاب يسارية، بما فيها “الشعب الاشتراكي” و”اللائحة الموحدة” باتجاه مراجعة تقديم وزارة العدل والشرطة الدنماركية رخصاً للتصدير إلى دولة الاحتلال.
يُذكر أن شركة تيرما، التي أثارت منذ عقدين سجالاً لا يتوقف عن تعاونها الوثيق مع دولة الاحتلال، شاركت شركة لوكهيد مارتن الأميركية بعقد يصل إلى نحو 3.7 مليارات كرونة دنماركية من خلال 800 موظف لتوريد مكونات لطائرات “أف 35” بما فيها تقنيات القصف وقطع حساسة أخرى، ومن أهمها مكونات الرادار وأجزاء ذيل الطائرة، كما يشرح رئيس مركز عمليات الطيران في أكاديمية الدفاع الرائد كارستن ماروب، في التقرير، باعتبار أنّ جميع الأجزاء مهمة لوظيفة الطائرة في عملياتها القتالية. وحتى الآن حصل الاحتلال الإسرائيلي على 36 طائرة “أف 35” من أصل 50، حيث دخلت الخدمة كأول مكان بعد الولايات المتحدة الأميركية.
واستدعت المشاركة الدائمة لـ”تيرما” في تصدرها لوسائل تساعد الاحتلال الإسرائيلي على قصف الفلسطينيين (سواء كان سابقاً بطائرات أف 15 و16 أو غيرها من وسائل) مواقف حقوقية وفعاليات تضامنية فلسطينية ودنماركية مندّدة بصادراتها إلى الاحتلال.
وطالبت الحكومات الدنماركية المتعاقبة (يسار ويمين وسط) بضرورة التدخل لوقف التصدير من “تيرما” للاحتلال، من دون نتيجة. مع العلم أنّ تصدير المعدات والتقنيات العسكرية والاستخبارية الحساسة في البلاد يخضع لموافقة سياسية وعدلية، أي لا يمكن أنّ تمر عمليات التصدير من دون موقف رسمي إيجابي منها.