مرّت 75 عاماً على نكبة الشعب الفلسطيني، وتنفيذ العصابات الصهيونية واحدة من أكبر عمليات التطهير العرقي في القرن العشرين، والتي أسفرت عن تدمير وإزالة ما لا يقل عن 520 بلدة وقرية فلسطينية، وتنفيذ أكثر من 50 مجزرة وحشية، وإجبار 70% من الفلسطينيين على الرحيل، ليصبح أكثر من 6.5 ملايين لاجئ محرومين من العودة إلى وطنهم.
ولم تتوقّف الحركة الصهيونية عن التوسّع العدواني، فاحتلت عام 1967 ما تبقى من فلسطين، الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزّة، بالإضافة إلى الجولان المحتل. لكن ذلك العدوان، بالتحديد، أدّى إلى توحيد نضال كل الفلسطينيين في الداخل والخارج، وتبلور الشخصية الوطنية الفلسطينية الجامعة المصرّة على تحقيق الحرية وتقرير المصير. وكان الهدف الفلسطيني الجامع، الذي تبنّته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، تحقيق العودة، واقامة الدولة الديمقراطية على كامل فلسطين التاريخية.
وتبع ذلك تعرّض حركة التحرر الوطني الفلسطينية ومنظمة التحرير لضغوط دولية كبيرة، للتخلي عن هدف الدولة الديمقراطية الواحدة، والقبول بما سمّي “حلّ الدولتين”، الذي مضمُونه، في أحسن الأحوال، إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الضفة الغربية وقطاع غزة، أي على 22% من أرض فلسطين التاريخية، أي أقلّ من نصف ما أقرّه مشروع الأمم المتحدة للتقسيم، الذي أعطى الفلسطينيين 44%، عندما كانوا يملكون 84% من أرض فلسطين.
وكان قبول قيادة منظمة التحرير “حلّ الدولتين” فاتحة الطريق نحو اتفاق أوسلو الذي وقع عام 1993، والذي كان من وجهة النظر الصهيونية الوسيلة المثلى لاحتواء الانتفاضة الشعبية الأولى ونتائجها، وإخضاع حقّ العودة للمساومة، وكذلك حدود الدولة ومستقبل القدس والاستيطان والأمن.
عندما بدأ المشروع الصهيوني لاستعمار فلسطين، وتنفيذ احتلال كولونيالي اقتلاعي إحلالي، كان سلاحه الرئيس ووسيلته المستعمرات الاستيطانية، والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين بالاحتيال أحيانا، وبالقوّة المسلحة والمجازر والقوانين التعسّفية في الغالب. ومنذ عام 1948، قلصت الحركة الصهيونية ملكية الفلسطينيين للأرض في ما أصبح “إسرائيل” من 82% إلى 3.5% فقط، وما زالت تلاحق التجمّعات الفلسطينية للاستيلاء على مزيد من أراضيها. ومع احتلال الضفة الغربية، بدأت إسرائيل فوراً تنفيذ مشاريعها الاستيطانية بوتيرة متصاعدة، وكانت خطيئة المفاوضين الفلسطينيين الكبرى عندما وقعوا اتفاق أوسلو أنهم لم يتمسّكوا بشرط الوقف الشامل للاستيطان قبل توقيع أي اتفاق، على عكس موقف حيدر عبد الشافي الذي ترأس الوفد الرسمي الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد.
ونشأ بالتالي وضعٌ مستهجنٌ واصلت فيه إسرائيل التفاوض وكسب الوقت، بالتوازي مع توسيع متسارع للاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس، حتى ارتفع عدد المستوطنين من 121 ألفاً عندما وقّع اتفاق أوسلو إلى أكثر من 750 ألفاً اليوم.
لم يتوقّف الاستيطان إلا في قطاع غزّة بعد عام 2005 لصغر مساحته التي لا تتعدّى 1% من أرض فلسطين، وبسبب كثافة الوجود السكاني الفلسطيني فيه، وعدم قدرة إسرائيل على احتمال المقاومة المتصاعدة فيه.
واليوم، لا يمكن لأي مراقب موضوعي ألا يدرك أن ما قامت وتقوم به إسرائيل في الضفة الغربية لا يختلف بشيء عما فعلته بأراضي عام 1948، أي أنها تواصل تنفيذ الاستعمار الاستيطاني الاقتلاعي الإحلالي وتوسيعه، وتواصل المشروع الاستيطاني ذاته من دون إخفاء نياتها برفض وجود أي كيان فلسطيني مستقل بين نهر الأردن والبحر المتوسط، وبعد أن أوقفت المفاوضات (منذ 2014) التي استنفدت أغراضها باحتواء الانتفاضة، وخداع الفلسطينيين والعالم.
أما المجتمع الدولي، وخصوصا الغربي، الذي يواصل التشدّق بفكرة “حلّ الدولتين” فلم يمارس، ولا يمارس أي ضغط فعلي على إسرائيل لوقف التوسّع الاستيطاني وعمليات الضم والتهويد في القدس وباقي الضفة الغربية. وهكذا يواجه الفلسطينيون وضعاً يُطالبون فيه بالتمسّك بحل الدولتين، وهم يراقبون افتراس إسرائيل أراضيهم وتوسّعاً استيطانياً غير مسبوق يقتل ويمزّق أي امكانية لوجود دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة.
المعضلة الكبرى التي تواجه الحركة الصهيونية فشلها، رغم استيلائها على الأراضي بالقوة المسلحة، في إجبار الفلسطينيين على مزيد من الهجرة والرحيل، ويبدو الفشل الأكبر لإسرائيل. وفي المقابل، الإنجاز الأكبر للشعب الفلسطيني أن عدد الفلسطينيين اليوم على أرض فلسطين التاريخية أكبر بقليل من عدد اليهود الإسرائيليين. وفي حين تواصل الحركة الصهيونية استراتيجيتها بتجزئة الفلسطينيين من خلال فصل قطاع غزّة عن الضفة الغربية، والقدس عن محيطها، والداخل عن الأراضي المحتلة، وتجزيء الضفة الغربية نفسها إلى 224 جزيرة أو غيتوستانات مقطّعة الأوصال بأكثر من 645 حاجزاً، وجدار الفصل العنصري، والمستوطنات والطرق العنصرية، تنشأ فكرياً وميدانياً حالة وحدة في الرؤية الفلسطينية، تتجاوز الانقسامات التي أوجدها اتفاق أوسلو، وتراجع دور منظمة التحرير وانشغالها بسلطةٍ تحت الاحتلال عن مهام حركة التحرّر الوطني.
وتتمرّد هذه الرؤية الموحدة على محاولة إسرائيل وأطراف دولية داعمة لها إبقاء الفلسطينيين أسرى في قفص “حلّ الدولتين” المستحيل، لإعطاء إسرائيل الوقت اللازم لتدمير ذلك الحلّ، أو ما تبقّى من احتمالات له. وتستند الرؤية الموحدة إلى مبدأ وحدة نضال (وأهداف) الشعب الفلسطيني، الذي أعادت إسرائيل تأكيده بفرضها نظام الأبرتهايد كمعالجة لمعضلتها الديمغرافية، والذي أجمعت منظمات حقوق الإنسان الدولية على أنه يضطهد ليس فقط فلسطينيي الأراضي المحتلة، بل ومن يعيش منهم في أراضي 1948 ومن يعيش قسراً لاجئاً في الخارج. والواقع أن اتفاق أوسلو قسّم الفلسطينيين وسعى إلى إقناعهم بأن فلسطين هي فقط الضفة الغربية وقطاع غزّة، أو بعضاً منها، في حين يعيد صمود الفلسطينيين على أرض فلسطين، وكفاحهم المشترك ضد منظومة الأبرتهايد والتمييز العنصري، وحدة الشعب الفلسطيني بكل مكوّناته.
ولذلك صارت العودة مشروعةً إلى جذور القضية الفلسطينية، وإلى الهدف المنطقي والعملي الوحيد الذي يحقّق آمال كل مكونات الشعب الفلسطيني وأجزائه، وهو إنهاء الاحتلال وتحقيق عودة جميع اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هجروا منها، وإسقاط كل منظومة الأبرتهايد والتمييز العنصري وإقامة الدولة الديمقراطية الواحدة التي يتساوى فيها الجميع على كل فلسطين التاريخية.
بعد 75 عاماً من النكبة، نعود إلى المربع الأول، لتواجه الحركة الصهيونية أسوأ كوابيسها، بعودة الوعي الشامل إلى الشعب الفلسطيني الذي مارست ضده كل أنواع القهر والظلم والتهجير والاستعباد.