لفهم الأمور في أوكرانيا اليوم، ربما يتعين علينا العودة إلى ما قبل التصعيد وقراءة المشهد الذي جعل روسيا تقدم على خطوة جريئة مثل شن هجوم عسكري على دولة أخرى كان لديها طموح في الانضمام إلى الناتو أو ربما الاتحاد الأوروبي أو كليهما. حول هذا الموضوع، أعدت ياسمين سرحان، المحررة في مجلة “الأتلانتيك” والمقيمة في لندن، تحليلا نشرته المجلة الأميركية، تستعرض فيه كيف ابتلع بوتين بيلاروسيا وسط صمت عامّ من الغرب، قبل أن يُقدِم على مغامرته الأبرز بغزو أوكرانيا.
ترجمة النص
في غضون شهر، استطاع فلاديمير بوتين -بفاعليةٍ- تحويل دولة سوفيتية سابقة إلى امتداد للأراضي الروسية، على مرأى ومسمع من الولايات المتحدة وأوروبا، دون إطلاق رصاصة واحدة داخل تلك الدولة. لم يحدث ذلك في أوكرانيا، بل في بيلاروسيا المجاورة، التي احتضنت على أراضيها الجنود الروس ومعداتهم العسكرية منذ بداية العام بدعوى التدريبات المقررة بين جيشي البلدين. وفي 19 فبراير/شباط الماضي، أعلنت الحكومة البيلاروسية احتمالية بقاء الجنود الروس البالغ عددهم 30 ألفا على أراضيها، فيما يُعَد أكبر تمركز لموسكو في مينسك (عاصمة بيلاروسيا) منذ نهاية الحرب الباردة.
بغض النظر عما يحدث في أوكرانيا، يعد هذا نصرا كبيرا لبوتين في حربه مع الغرب، فالخطوة لا تمثل انتهاكا للسيادة البيلاروسية فحسب، ولكنها تمثل أيضا تحديا للناتو بوصفه الكفيل الأمني في البلطيق، حيث تشترك بيلاروسيا في حدودها مع ثلاث دول أعضاء في الناتو. ومع ذلك، قلة هم القادة من خارج منطقة البلطيق الذين علقوا على ذلك الإعلان أو صرَّحوا كيف يخططون للرد عليه.
معضلة بيلاروسيا
لم يكن من السهل دائما تجاهل بيلاروسيا، فقد جذبت البلاد أنظار العالم عام 2020 بعد انتخابات رئاسية مزوَّرة ضمنت إطالة أمد عهد القائد الذي حكم طويلا، “ألكسندر لوكاشِنكو”؛ ما أشعل أكبر تظاهرات مؤيدة للديمقراطية في تاريخ البلاد. وقد نجا لوكاشِنكو بمساعدة الحكومة الروسية، التي وفَّرت له قوات الشرطة لسحق التظاهرات، والتمويل اللازم لتجاوز العقوبات الغربية، وبات العالم فجأة ينظر إلى بيلاروسيا على أنها دولة تابعة، رغم أنها دولة محايدة كما يفترض (ومنصوص على حياد جيشها في الدستور)، بل وعادة ما اشتكى قائدها من التدخل الروسي.
وقع هذا التدهور في بيلاروسيا بوتيرة أسرع مما توقعت المعارضة البيلاروسية المنفية في ليتوانيا، وقد حمل هذا التحول معه إنذارا. صرَّح لي “فراناك فياتشوركا”، مستشار كبير لدى قائدة المعارضة البيلاروسية “سفيَتلانا تسيخانوسكايا”، قائلا: “نحن نشهد في بيلاروسيا نسخة أنعم مما نشهده في أوكرانيا، الاختلاف الوحيد هو أنه في أوكرانيا تواجه الدولة الاحتلال، أما في بيلاروسيا فإن الدولة تدعمه”.
لن يمر هذا التحول مرور الكرام في أماكن مثل بولندا ودول البلطيق التي طالما نظرت إلى بيلاروسيا باعتبارها الحصن المنيع بينها وبين روسيا. فقد جلبت بيلاروسيا، بتنازلها عن أراضيها لموسكو، القوات الروسية بالفعل إلى عتبات بولندا والبلطيق. وهناك منطقة واحدة خصوصا توقَّف عندها القادة العسكريون والخبراء، وهي شريط حدودي يبلغ طوله 105 كيلومترات تقريبا يقع على الحدود البولندية-الليتوانية، ويعرف باسم “ممر سواوكي (Suwałki)”، ويربط بيلاروسيا بمنطقة “كالينينغراد” الروسية المعزولة عن بلدها الأم، والواقعة إلى الغرب من بيلاروسيا والبلطيق وإلى الشرق من بولندا، يربط هذا الممر أيضا دول البلطيق ببقية دول الناتو في أوروبا، فإذا استولت القوات الروسية على الممر، فلن يكون لديها طريق سريع يصلها ببولندا وليتوانيا فحسب، بل ستكون قادرة أيضا على فصل دول البلطيق الأعضاء في الناتو عن بقية دول الحلف.
الثمن الفادح
لا عجب إذن أن قادة ليتوانيا ولاتفيا كرَّروا دعوات الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلنسكي” إلى الغرب بفرض عقوبات فورية على روسيا، وهو الإجراء الذي تردَّدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في اتخاذه في البداية قبل الغزو الروسي لأوكرانيا؛ أملا منهم في أن يردع التهديد بالعقوبات وحده الاستفزازات الروسية، بيد أن سيطرة موسكو العسكرية على بيلاروسيا، وما أعقبها من تمركز للقوات الروسية في المناطق الانفصالية بشرق أوكرانيا، وضعت حدا لهذه الآمال الواهية.
“في عام 2008 (في جورجيا)، وفي عام 2014 (في القرم)، ومجددا هذه المرة، أظهرت روسيا قدرتها على استخدام التهديدات العسكرية ضد جيرانها”، هذا ما أخبرني به متحدث رسمي باسم وزارة الخارجية الليتوانية عبر البريد الإلكتروني، مضيفا أن “بيلاروسيا تُعَد مندمجة بالفعل بحكم الأمر الواقع في هيكل الجيش الروسي… وحشد القوات الروسية في بيلاروسيا يعزز تفوق الجيش الروسي على الناتو في المنطقة. هذه التطورات تتطلَّب وضعا أقوى دفاعيا ورادعا من جانب الناتو في منطقة البلطيق”.
حشد القوات الروسية في بيلاروسيا يعزز تفوق الجيش الروسي على الناتو في المنطقة.
لطالما ركز القادة والمحلِّلون الغربيون في نقاشاتهم بشأن بيلاروسيا على التهديد الذي يشكله الوجود الروسي في البلاد على أوكرانيا، بيد أن التهديد يمتد إلى السيادة البيلاروسية أيضا. والمشكلة بالنسبة إلى بيلاروسيا هي أن قيادتها رحَّبت بوجود موسكو على عكس أوكرانيا، حتى لو أراد الغرب اتخاذ موقف للدفاع عن سيادة بيلاروسيا، فقد لا تكون لديه دعائم كافية لفعل ذلك، إذ إن قادة المعارضة في بيلاروسيا إما في السجون وإما في المنفى. أما الشعب البيلاروسي فيظل تحت سيطرة مُحْكَمة من قوات الأمن في بلاده، التي أظهرت بالفعل عدم تسامحها مع التظاهرات السلمية. ويقول “فياتشوركا” في هذا الصدد: “ما من مساحة للحراك، إننا نشعر وكأن الجميع قد تخلَّى عنَّا”.