قبل سنوات قليلة فقط، وتحديدا في عهد ولاية الرئيس الأميركي السابق غير المأسوف عليه دونالد ترامب، كان كل ما يحدث في واقعنا المحلي وبيئتنا الإقليمية وفي العالم بشكل عام، يسير في غير صالحنا: الولايات المتحدة بقيادة رئيسها غريب الأطوار تفرض هيمنتها على العالم بأسره، فتقوم إدارة هذا الرئيس – المتهم بارتكاب مخالفات جنائية حاليا- بابتزاز الدول العربية جمعاء، وتنسحب من الاتفاق النووي مع إيران، ثم يتبنى رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرف لحل قضية الشرق الأوسط وفق صفقته مع نتنياهو، وخلاصتها التطبيع مع الدول العربية وشطب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، واستبدالها بأوهام الرخاء الاقتصادي.
وعلى المستوى العربي والإقليمي، كانت عديد الدول العربية تتآكل من داخلها وتتردى في أزماتها الداخلية وحروبها الأهلية، فرأينا كيف تنهار دول وحواضر كانت على امتداد تاريخها مراكز الحضارة العربية الإسلامية. ورأينا كيف ينقسم العالم العربي إلى محاور متصارعة، فتجد إسرائيل في هذا الصراع الذي افتعلته وأجّجته ثغرات تنفذ من خلالها فتقدم نفسها كحليف لبعض الأطراف في مواجهة عدو مصطنع. وكيف عملت على الترويج لبناء نظام إقليمي جديد يكون لها فيه مكان الصدارة والقيادة وتقدم نفسها كدولة محبة للسلام والتعاون الإقليمي.
وضعنا الفلسطيني الداخلي لم يكن بحال أفضل مع انسداد الآفاق أمام حل قضيتنا الوطنية، وتراجع مكانة هذه القضية في ضوء التطورات الإقليمية المتسارعة واستمرار الانقسام والتخبط وفشل كل اللقاءات والمؤتمرات لاستعادة الوحدة الوطنية.
هذه الأوضاع مجتمعة أغرت إسرائيل وشجعتها على التمادي في عدوانها، والقيام بكل ما من شأنه القضاء على أي فرصة واقعية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، بل وصل الحال بحكومات إسرائيل إلى اعتبار القضية الفلسطينية مجرد مشكلة إرهابية وديمغرافية للدولة اليهودية، ولدى تنميق هذا الكلام صاغوه بعبارات توحي بأن القضية هي مشكلة أمنية واقتصادية وإنسانية، ما انطلى على كثير من الأطراف الدولية والإقليمية بحيث أنها ارتضت تركيز جهودها على تخفيف آثار الاحتلال، وتحسين شروط حياتنا تحت نيره، وليس على إنهاء هذا الاحتلال، السبب الجوهري لكل مشكلاتنا ولغالبية أزمات المنطقة.
كنا إذن في مرحلة انحدار دامت لسنوات طغت فيها المصالح على المبادئ، وتبدلت موازين القوى وانفرط عقد النظام العربي، وتسيّدت قوى اليمين الشعبوي، والقوى الفاشية والنازية الجديدة، وتحولت العنصرية المقيتة من نزعة منبوذة ومُدانة إلى اتجاه رئيسي وصل إلى سدة الحكم في عدد من الدول الكبرى والصغرى، في دول المركز (الغرب الرأسمالي) والمحيط (العالم الثالث) على السواء.
لكن ما يزيد عن حده ينقلب إلى ضده، فغطرسة إسرائيل واستعلاؤها دفع بها إلى أحضان اليمين الفاشي المتطرف الذي بات يعتمد المذابح والمحارق أدوات “مشروعة” لتحقيق اطماعه، فبالغ في سياساته العدوانية إلى درجة لم يعد يعترف معها بوجود شعب فلسطيني، وبات مقتنعا بقدرته على حسم الصراع وإنهائه لمجرد امتلاكه التفوق العسكري. ولأن الطبع يغلب التطبع لم يكن بمقدور هذه القوى الفاشية والمعادية لكل ما هو إنساني أن تكون غير ما هي عليه في مواجهة أبناء جلدتها، فمن يستبيح حياة الآخر المختلف عنه قوميا أو دينيا او عرقيا، وينتهك حقوقه، لا يمكن له أن يكون لطيفا ومتسامحا وديمقراطيا مع مَن يخالفونه الرأي والموقف السياسي مع أبناء دينه وعرقه، وهكذا تكشفت الفاشية عن أبشع مكنوناتها، وأدخلت إسرائيل في أزمة غير مسبوقة فكشفت عن تناقضاتها الداخلية المحتدمة، وأوصلتها إلى حافة الحرب الأهلية.
على الصعيد الدولي ثمة مظاهر انكفاء من قبل الإدارة الأميركية تجاه قضايا الشرق الأوسط، صحيح أن إسرائيل ما زالت الابنة المدلّلة للولايات المتحدة والحليف الأقرب في نظر الإدارات المتعاقبة، لكن واشنطن باتت تركز مجهوداتها على مناطق أخرى. وبات واضحا أن الحرب في أوكرانيا ليست مجرد مواجهة بين روسيا ونظام زيلينسكي بل هي مواجهة مفتوحة بين روسيا وحلف الناتو بكل اعضائه ومقدراته. لم تعد الولايات المتحدة شرطي العالم، ولا القيادة المُسلّم بزعامتها، ولا هي الآمر الناهي بصفتها القطب الوحيد المهيمن عسكريا واقتصاديا على كوكب الأرض، وبتنا نجد حلفاء مقربين للولايات المتحدة يرفضون الانصياع للخط والدور الذي ترسمه لهم واشنطن وخصوصا عبر المساهمة في جهودها الحربية تجاه روسيا، ومساعيها لمحاصرة الصين ودورها الناهض. وما الاتفاق الإيراني السعودي وقرب استعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما إلا دليلا على تعاظم الدور الصيني في رسم ملامح عالم الغد. وهذا الاتفاق الذي شكل لطمة قاسية لإسرائيل سوف يكون له من دون شك أثر في حلحلة وتفكيك عدد من الملفات والأزمات المستعصية ومن بينها الحرب على اليمن والأزمة اللبنانية، وما نأمله أن هذا الاتفاق سوف يشيع مناخات جيدة، تعكس نفسها بشكل إيجابي على أوضاعنا الداخلية.
ومن التطورات البالغة الأهمية مؤشرات قرب انتهاء الأزمة السورية على نحو يضمن الحفاظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها وعودتها للجامعة العربية (أو الأصح عودة الجامعة العربية لها) واستعادتها لمكانتها الطبيعية كدولة مركزية في المنطقة.
من المؤكد أن حل الأزمات العربية المحيطة بنا سوف يساهم في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية في الشرق الأوسط وأهم القضايا العالمية، لكن أبرز العوامل والمتغيرات يتمثل كذلك في نهوض المقاومة الفلسطينية بوصفها عاملا رئيسيا ومؤثرا من عوامل الصراع، وكان له أكبر الأثر في استنهاض أشكال الدعم والتعاطف العربي مع قضيتنا، وإثبات أن شعبنا لن يستسلم ولن يستكين لهضم حقوقه الوطنية وتجاوزها، لكن هذا الأثر يبقى منقوصا مع استمرار الانقسام الفلسطيني وطالما لم يتحقق التكامل بين كل أشكال النضال السياسي والدبلوماسي والقانوني الدولي والجماهيري والمقاوم.
التغيرات العالمية والإقليمية والإسرائيلية مهمة جدا وقد تكون حاسمة، ولكننا قطعا لن نستفيد منها إلا إذا أعدنا ترتيب أوراقنا وبيتنا الداخلي على قاعدة استعادة الوحدة الوطنية وإعادة الاعتبار لمكونات النظام السياسي الفلسطيني من مدخل الانتخابات الشاملة.