بقلم: الدكتور إياد البرغوثي
حصلت معظم دول الشرق”الاسلامي”على استقلالها “الرسمي” (الشكلي) في النصف الأول من القرن الماضي. إلا أن ذلك الاستقلال لم يوقف محاولات القوى الامبريالية للإبقاء على هيمنتها على تلك الدول والتأثير في شعوبها، ليس فقط من خلال إظهار القوة الخشنة وإقامة القواعد العسكرية إنما ايضا من خلال القوى الناعمة التي تستخدمها تلك الدول وتتمثل بالسياسة والاقتصاد وكذلك الثقافة في ما يسمى بالامبريالية الثقافية.
فالإمبريالية الثقافية هي سعي الدول الاستعمارية الى فرض هيمنتها الايديولوجية على الدول والشعوب المستضعفة تعيد من خلالها إنتاج تبعية تلك الدول والشعوب لها، وتسهل عملية التحكم بها وبمقدراتها، وتستطيع من خلالها توجيهها لخدمة اهدافها وبالشكل الذي تريد.
يتم ذلك بالمجمل خلال استخدام كل ما يؤثر في قناعات الناس وقيمهم عند الشعوب المستضعفة واحيانا غير المستضعفة أيضا، بحيث يتم ابهار هذه الشعوب بكل ما لدى المستعمر من “منجزات” مادية وفكرية، وبقدر ما يكون ذلك، يكون جلد تلك الشعوب لذاتها واستصغارها لدورها ويأسها من الخروج من تخلفها حيث تصل الى قناعة باستحالة الخروج من الأزمة التي تعيشها، وتصل في نفس الوقت الى قناعة بأنها شعوب قاصرة وأنها بحاجة الى رعاية من تلك الدول “القوية والمتطورة”.
وتسلم تلك الشعوب أن قصورها هو أمر طبيعي ومعطى سلفا وأن حاجتها للرعاية ضرورية وبديهية، حيث تصاب تلك الشعوب بعقدة نقص، لن تجد لها حلا إلا باللجوء الى تلك البلدان “المتقدمة”.
تعمل الامبريالية الثقافية على الاعلاء من شأن قيم شعوبها وثقافتها واحتقار قيم وثقافة الآخرين. هي عنصرية مشهودة يسعى الغرب الامبريالي لفرضها على العالم، ويريد من ذلك العالم أن يكون سعيدا بها بل وممتنا كذلك.
والغرب لا يرى عنصريته شيئا خارجا عن المألوف، أو أنها إساءة للانسانية، بل يراها شيئا طبيعيا لذلك يسعى للحفاظ على “تفوقه” بكل ثمن، ولذلك يستغرب عندما تتحدث الشعوب المستضعفة عن ازدواجية المعايير لديه، فالطبيعي عنده أن يختلف القتل في فلسطين عنه في اوكرانيا، ويختلف اللاجيء الافغاني عن اللاجيء الاوكراني. وطبيعي ايضا ولا تناقض البتة أن يؤسس هنري دونان الصليب الأحمر الدولي وأن يقوم في نفس الوقت بتمويل انشاء مستوطنات صهيونية في فلسطين.
من هذا التفوق “العنصري” يأخذ الغرب الامبريالي الحق ليس فقط في فرض “انجازاته” الثقافية على الآخرين، بل وفي فرض “جنونه” وعقده ايضا. ان الكثير من المواضيع التي تفرض على منظمات المجتمع المدني في بلادنا تندرج تحت هذا التصنيف. المشكلة انه عند درجة من العنصرية يصبح كذب العنصري هو الصدق، وأخطاؤه هي الحقيقة، ونقائصه مزايا، واشكالاته هي الحلول، وهو لا يقتنع بهذه “المعطيات” فقط إنما يفرضها على الآخرين على “شكل” عقلانية وحداثة وحرية وديموقراطية وحقوق انسان.
وحتى لا نقع في مربع العنصرية “المقابلة”، فإنه يجب الاعتراف بالأزمة العميقة التي يعيشها الشرق علميا وحضاريا، وأن ما نقوله عن الغرب من سلبيات لا يعني التنكر لدوره الإيجابي الكبير في الحضارة العالمية منذ دخول عصر الرأسمالية وحتى يومنا هذا، خاصة في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي.
كما لا ينبغي أن يقودنا ذلك أبدا الى استنتاج أن الشرق يعيش أجمل أيامه، وأن من حقه أن ” يفتخر” بهذا الوضع لدرجة ان نادى بعضنا بأحقيتنا في “استاذية العالم”.
ان مشكلة الغرب الامبريالي الحالية تكمن في رغبته في توقيف الزمن، واعتبار نفسه في قمة التطور الإنساني الذي لا تطور بعده ” نهاية التاريخ”. هو يريد أن يقتنع أنه الأفضل ليس فقط الآن ولكن للأبد، ويريد أن يقتنع الآخرون بذلك وأن يتصرفو على هذا الأساس.
يستخدم الغرب كل وسائله الناعمة (وغير الناعمة اذا تطلب الأمر ) للتأثير في شعوب العالم وخاصة في الشرق وجعلها تتبنى قيمه وثقافته ومعاييره في الحكم على الأشياء. وهو من أجل ذلك يحاول التأثير على الدولة المستهدفة بكل اركانها، النظام والمجتمع المدني بما فيه المنظمات غير الحكومية، ومختلف طبقات الشعب وفئاته.
وهو يستخدم كل الوسائل المؤثرة في بناء القيم، والتي تتشكل أساسا من التعليم حيث تتدخل الدول الامبريالية في مناهج التعليم في البلدان الضعيفة بشكل مباشر، وتملي عليها تغيير ما لا تراه مناسبا في تلك المناهج، وكذلك الدين والمؤسسة الدينية التي يجري تدجينها وافراغها من كل ما هو وطني، ثم الاعلام الذي يلعب دورا استثنائيا في توجيه الناس والتأثير في عقولهم وايصالهم الصورة والخبر بالشكل الذي تريده الدول الاستعمارية.
من خلال هذه الوسائل تدخل الامبريالية الثقافية من أجل خلخلة البنية الفكرية للشعوب المستضعفة، وتحديد أطر لتفكيرها، وتوجيهها نحو اجندات ليس لها علاقة بالمشاكل الحقيقية التي تواجهها تلك الشعوب، وتنشر بينها قيم الفردانية المتحللة من كل التزام يتعلق بالشعب وبالوطن.
أكثر الفئات الاجتماعية التي تستهدفها الامبريالية الثقافية هم مثقفو الشعوب المستضعفة لما لهم من أهمية في التأثير على بقية الطبقات والفئات الشعبية، ولكونهم الفئة المرشحة لحمل مشروع الأمة التي يمثلوها، وكذلك للاحتكاك القائم بين هذه الفئة والغرب. فالمثقفون هم حملة مشروع الأمة من جهة وهم الاقدر على وأد ذلك المشروع وإحباطه من الجهة الأخرى، والأمة بلا مشروع هي ليست اكثر من “لا شيء”، هي ليست أمة، فالفرق بين الأمة والدهماء هو وجود المشروع. ان اي اختراق لفئة المثقفين سيسهل للامبريالية الثقافية عملها.
تعاني فئة المثقفين في البلدان العربية وفي الشرق عموما من كثير من المشاكل تجعلها “صيدا” سهلا للامبريالية، وتبعدهم عن رسالتهم المفترضة التي تتمثل أساسا في التنظير لمشروع الأمة في التحرر والوحدة والتنمية والتقدم.
بسبب نظام الإنتاج الموروث من حقبة الاستعمار المباشر، يشكل جهاز الدولة البيروقراطي المتضخم عادة، المستوعب الأكبر للقوى العاملة في دول المنطقة، ومن ضمن هؤلاء نسبة كبيرة من المثقفين. كما أن نسبة لا بأس بها من هؤلاء المثقفين، وبسبب تعقيدات الوضع المعيشي في هذه البلدان، دخلت بشكل مباشر أو غير مباشر في عالم البزنس أو في منظمات المجتمع المدني. هذا الوضع، أي الارتباط المباشر بالدولة أو بمنظمات المجتمع المدني وبأنواع معينة من البزنس، يفترض علاقة “حميدة” بالغرب ويجعلها أقرب الى القيم الغربية والفكر الاستهلاكي بصورة عامة.
هذه التعقيدات، وغيرها بالطبع، تخلق تباينا واضحا يتراوح بين فئات المثقفين المختلفة تجاه الهيمنة الثقافية للغرب على شعوب المنطقة، يتراوح بين القبول المطلق والرفض المطلق. فهناك المثقف “المعجب” بالقيم الغربية دون تحفظ، يحتقر الشرق “الاسلامي” ولا يعتبره متخلفا فقط بل التخلف نفسه. هذا النوع من المثقفين لا يرى غضاضة في “التبعية” للغرب بل يراها مقياسا للتقدم وانجازا كبيرا ويدعو للتشبث بها. وهو بذلك لا يرى ضرورة أن يكون للمنطقة مشروعها الخاص، وإن كان لا بد من ذلك فليكن بتعميق التواصل مع الغرب وبمزيد من “الغربنة”.
يقابل ذلك، ويدعمه عمليا، ذلك المثقف الشرقي الذي يرى الغرب الشر المطلق الذي يجب ادارة الظهر لكل ما عمل ويعمل، ويرى في الشرق “نموذجا” يجب على الغرب وغيره الاحتذاء بكل ما جاء به، وأن بعض المشاكل الموجودة في الشرق ما هي إلا بسبب ابتعاد الشرقي عن شرقيته الأصلية. هذا النوع من المثقفين قد يكون حاملا لمشروع للأمة لكنه مشروع اصولي انعزالي معلن للحرب سلفا على كل الآخرين، وهو صورة شرقية لفوكوياما ونهاية التاريخ الغربية.
الى جانب المثقف المتأثر مباشرة بالغرب الامبريالي والمندمج معه والمعجب به والمتبني لمشروعه توجد شرائح من المثقفين الشرقيين الذين “يسهلون” (وإن كان ذلك بتقديري دون أن يدركوا ذلك) الاختراق الثقافي الغربي لشعوبهم. من هؤلاء المثقف المنعزل وغير الشاعر بأية مسؤولية تجاه وطنه وأمته وليس لديه مشروعا الا مشروعه الخاص. والمثقف المحبط واليائس والمهزوم الذي يرى الهزيمة قدرا فيتماهى معها بل ويصل درجة الإستثمار بها أحيانا (مثقفو التطبيع على سبيل المثال )، هذا النوع من المثقفين المستسلمين للراهن، والمبررين لكل ما هو موجود، والفاقدين حتى للحلم بأي تغيير هم فئة نموذجية للامبريالية الثقافية.
واذا ما اضفنا الى هؤلاء، الناقد السلبي للاوضاع، ذلك النوع من المثقفين الذي يتحول نقدهم بمرور الوقت الى “نق” دون الابقاء على أي فسحة للتغيير الإيجابي، إضافة إلى اولئك المثقفين الذين لا يرون كامل المشهد، ويذهبون الى التفاصيل، ويغوصون في اليومي على حساب الاستراتيجي، ويخلطون بين الأهداف السامية الثابتة والوسائل المتغيرة. كل هؤلاء، اضافة الى المثقفين المتعصبين لكل الهويات التي تحول دون تقارب مكونات الأمة من بعضها، يشكلون القاعدة الأكبر لدخول الامبريالية الثقافية الى بلدان الشرق.
ما تحتاجه شعوب الشرق وخاصة شعوب العالم العربي من أجل رفع حصانتها تجاه الامبريالية الغربية الثقافية هو ذلك المثقف الذي يحمل مشروع الأمة لأنه بذلك يعطي للشرق معناه، وهو المثقف المسؤول الذي لديه المعرفة والإحساس بالمسؤولية تجاه قضايا أمته الكبرى، وهو الذي يدعو الى حوار لممثلي مكونات الأمة من أجل تقاربها ويبعث فيها الأمل بإمكانية نجاح مشروعها، وفي نفس الوقت يعمل على عقلنة وعي الأمة الجمعي تجاه مصيرها المشترك وضرورة تحررها.