بقلم: نهاد أبو غوش
بدا الاقتراح الإسرائيلي بالتوسط بين جنرالي الحرب السودانيين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) أقرب إلى نكتة سمجة، غريبا ومنافيا للمنطق، وفيه من الدعاية أكثر بكثير مما فيه من عناصر جدية تمكن دولة الاحتلال والأبارتهايد من التوسط بين من دمرا بلديهما قبل الحرب وخلالها. واستمرارا لمنطق السماجة هذا عمد ناطق باسم أحد الطرفين إلى تشبيه الهجوم الذي تتعرض له قواته بما تتعرض له إسرائيل على أيدي “الإرهاب” الفلسطيني!!
لكن السؤال الجدي المطروح: ما الذي تملكه إسرائيل أكثر من دول ذات صلة وثيقة بالسودان مثل مصر واثيوبيا؟ فضلا عن المنظمات الدولية والإقليمية كالأمم المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الافريقي، وكلها لديها من الخبرة والمعرفة والتواصل مع أطراف المجتمع السوداني ما يمكنها من التدخل لمصلحة الشعب السوداني أولا.
الأغرب مما سبق هو أن الإدارة الأميركية هي التي شجعت إسرائيل على التوسط بين الفريقين، وكأنها ترى أن علاقات التطبيع التي أُدخل فيها السودان رغما عن شعبه هي أكثر أهمية وتأثيرا من الروابط التاريخية الثقافية والقومية والدينية التي تربط السودان بمحيطه الإقليمي.
عند الحديث عن السودان لا بد من التذكير أن ابناء وجنود هذا البلد الشقيق شاركوا في النضال من أجل فلسطين وسقط منهم كثير من الشهداء، ومشاركة الجنود والضباط السودانيين في حرب العام 1948 جرت بشكل تطوعي حيث لم يكن السودان قد نال استقلاله بعد، وكان جيشه خاضعا لإدارة بريطانية مصرية مشتركة هي في الحقيقة إدارة بريطانية خالصة ومنحازة لإسرائيل، وما زالت ذكريات هذه المشاركة حاضرة من خلال تسمية موقع “السودانية” في شمال قطاع غزة نسبة لتلك القوات. وشارك السودان رسميا كذلك في حرب العام 1967 على الجبهة المصرية وفي حرب اوكتوبر 1973، وكان من البلاد التي استضافت قسما من قوات الثورة الفلسطينية بعد خروجها من بيروت عام 1982.
التاريخ القريب والبعيد يشهد أن إسرائيل تآمرت دائما على السودان فقد تعرضت أراضي هذا البلد لعدة اعتداءات من قبل الطيران الإسرائيلي بحجة استخدامها من قبل حركات المقاومة الفلسطينية، كما استبيحت أرضه وسيادته من خلال الصفقات المريبة مع جعفر النميري من وراء ظهر الشعب لتهريب يهود اثيوبيا. وخلال السنوات الأخيرة دعمت إسرائيل جنرالات الحرب على حساب باقي مكونات الشعب السوداني المدنية من أحزاب ونقابات ومؤسسات أهلية.
كان السودان لفترة طويلة قبل انفصال جنوبه أكبر الدول العربية مساحة، والبلد الواعد بالخيرات نظرا لما يكتنزه من موارد طبيعية جعلته محل أطماع الدول الاستعمارية. وقد اعتمدت إسرائيل منذ إنشائها سياسة “تحالف المحيط” وهي عقيدة تبناها بن غوريون وتقوم على التقارب مع الدول غير العربية المحيطة بالعالم العربي، وبناء تحالفات أمنية وعسكرية وعلاقات جيدة معها ضد الدول العربية، وضمن هذا الإطار وثقت إسرائيل علاقتها مع كل من تركيا وإيران الشاهنشاهية واثيوبيا، كما دعمت الحركات الانفصالية في عدد من الدول العربية، وظلت هذه السياسة قائمة باشكال شتى ضد وحدة السودان من خلال دعم الحركات الانفصالية ليس في الجنوب فقط بل في دارفور وشرق السودان أيضا. كما شمل التآمر على السودان ووحدة أراضيه ومصالحه الاستراتيجية دعم إسرائيل لمشروع سد النهضة الاثيوبي، وتشجيع أديس ابابا على المضي في هذا المشروع من دون اي مراعاة لمصالح مصر والسودان ومن دون التفاهم معهما.
لم تكن هذه المواقف حبا بجنوب السودان وشعبه بالطبع، ولكن رغبة في تقسيم السودان وتفتيته، وفي هذا السياق لا يمكن تحميل الجنوبيين وحدهم مسؤولية الانفصال، بل يتحمل قادة السودان ولا سيما جنرالاته الفاسدون مسؤولية سياسات التهميش والإهمال والتمييز العنصري وتجاهل الخصوصيات الثقافية التي دفعت الجنوبيين إلى تحبيذ الانفصال.
أصابع العبث الإسرائيلية لم تتوقف عند هذا الحد، فقد سعت إسرائيل للهيمنة على جنوب السودان واستخدامه منصة من اجل مواصلة التغلغل في افريقيا، وهي لعبت دورا مشبوها في إذكاء وتأجيج الخلافات الداخلية التي وصلت إلى درجة قيام شركات السلاح الإسرائيلية بدعم الطرفين المتقاتلين في جنوب السودان وهما قوات الرئيس سلفا كير وقوات نائبه ريك مشار.
إسرائيل التي تبني الآن نظاما مركّبا للاحتلال والفصل العنصري ضد الفلسطينيين، لم تكن يوما ودية أو متسامحة مع غيرهم من العرب والأفارقة، فقد كانت لها علاقات مميزة مع نظام الفصل العنصري البائد في جنوب افريقيا وروديسيا، حتى أن هذه العلاقات وصلت إلى درجة إجراء تجارب نووية مشتركة في ستينات القرن الماضي.
هذه العنصرية ليست مجرد مواقف لحظية عابرة لبعض السياسيين وأحزابهم، بل هي جزء مكوّن للأيديولوجية الصهيونية التي ترى أن اليهود متميزون بصورة جوهرية عن غيرهم من شعوب الأرض، ولذلك انعكس هذا الموقف العنصري على التعامل مع يهود أثيوبيا (الفلاشمورا) وعلى بعض الأفارقة الذين قادهم حظهم السيء إلى إسرائيل ومعظمهم جاؤوا من السودان وجنوب السودان برا عن طريق مصر، حتى أن بنيامين نتنياهو رفع في العام 2019 شعار تحرير جنوب تل أبيب وكان يقصد بذلك التخلص بالقوة من المهاجرين الأفارقة بإعادتهم قسرا إلى بلادهم، أو إلى بلد ثالث يوافق على استقبالهم مقابل مكافأة مالية ( طرح في حينه اسم رواندا وبوروندي بحيث تمنحهما إسرائيل مبلغ خمسة إلاف دولار على كل لاجئ).
ما كان لإسرائيل ان تتمادى في تآمرها وأطماعها في السودان لولا عاملين اثنين هما تفكك النظام الرسمي العربي وفشل مؤسساته وخاصة الجامعة العربية، وكذلك الأطماع الذاتية والأنانية لأمراء الحرب والجنرالات الذين ما زالوا يتحكمون في مقدرات السودان منذ عقود، فيقودون بلدهم من فشل إلى فشل، ومن كارثة إلى أخرى، ولعل أكبر دليل على أن مصالح شعبهم هي آخر ما يهمهم هو أن قطبي الحرب الراهنة، هما شريكا الأمس في الانقلاب على المكونات المدنية في مجلس السيادة، وهما الرمزان الصارخان للتطبيع المهين لتاريخ السودان وهويته وانتمائه التاريخي.