سفارات الولايات المتحدة في دول، منها السعودية والهند، بلا سفراء، رغم دخول إدارة جو بايدن عامها الثالث، ورغم وصف واشنطن لبعض تلك الدول بأنها “مهمة للغاية”، فلماذا؟ وما تأثير ذلك على النفوذ الأمريكي؟
وفي ظل غياب السفير أو خلو منصبه، يشغل المنصب دبلوماسيون أدنى رتبة لممارسة مهمة التمثيل الدبلوماسي والقيام بالأعمال، لكن هؤلاء المسؤولين يكونون أضعف نفوذاً من السفراء وأقل وصولاً منهم إلى الرتب السياسية والدبلوماسية العليا.
ونشرت مجلة “فروين بوليسي” Foreign Policy الأمريكية تقريراً يرصد كيف تعطل النزاعات الحزبية والخلافات السياسية في واشنطن اختيار السفراء في دول مهمة، وما يمثله ذلك من مخاطر تهدد بتقويض النفوذ الأمريكي بتلك الدول.
لماذا هذا الفراغ في السفراء الأمريكيين؟
ومع اقتراب جو بايدن من دخول عامه الثالث في البيت الأبيض، لا تزال نحو 20 دولة تنتظر سفيراً أمريكياً لها، وتفاقمت المشكلة حتى بدأ بعض الخبراء يحذرون من أنها تضر بعلاقات واشنطن الثنائية بتلك الدولة، وتنتقص من فاعلية السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
وكانت مشكلة غياب السفراء قد تفاقمت على مدى زمني طويل، خاصة في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إذ ظلت عشرات الدول في عهده طيلة أشهر، وحتى سنوات، بلا مرشحين لتولي منصب السفير الأمريكي فيها أو مرشحين عالقين في انتظار إجراءات الموافقة المتراكمة والخلافات المحتدمة في قاعات مجلس الشيوخ.
وفي حين أن موافقة مجلس الشيوخ على تعيين السياسيين والسفراء كانت تستغرق، في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، نحو 48 يوماً، فإن هذه المدة تضاعفت في عهد بايدن، حتى احتاج بعضها إلى 103 أيام لإصدار الموافقة.
وقال دبلوماسي أمريكي بارز سابق، تحدث لمجلة فورين بوليسي، بشرط عدم الكشف عن هويته، إن “عملية [تعيين السفراء] أصابها الخلل”، و”قد تغلغل التسييس فيها على نحو شديد السوء”.
ومع ذلك، فإن مجلس الشيوخ ليس مسؤولاً وحده عن هذا الخلل، فقد تباطأ بايدن في تسمية مرشَّحيه لمناصب السفراء خلال عامه الأول، وما زال لم يقدم حتى الآن مرشحين لتولي السفارة في بعض الدول، رغم مرور عامين على ولايته.
وفي بعض الحالات، مثل الهند، استدعى جو بايدن مرشحين طال الخلاف حولهم في الكونغرس بسبب الخلافات بين نواب الحزبين، على الرغم من أنه لم يطرأ على مجلس الشيوخ ما يشير إلى تغيُّر موقف النواب من هؤلاء المرشحين.
الصين
من جانب آخر، قالت إدارة بايدن إنها حريصة على إتمام إجراءات ملء المقاعد الشاغرة في السفارات. وقال مسؤول بالبيت الأبيض في رسالة بالبريد الإلكتروني: “نواصل السعي للحصول على موافقة سريعة على كثير من المرشحين البارزين والمؤهلين تأهيلاً عالياً لتولي المنصب في أماكن مختلفة، كما أننا سنعلن عن تسمية مرشحين آخرين في الأسابيع المقبلة”.
ومع ذلك، فإن بعض أعضاء مجلس الشيوخ حذروا من تأثير غياب السفراء في بعض الدول وعواقب ذلك في تقويض المصالح الأمريكية بالخارج، ولذلك فهم يلحون على تحسين إجراءات الاختيار، وإتمام عملية الموافقة على المرشحين بسرعة أكبر. وقال السيناتور الديمقراطي كريس كونز، أحد كبار المشرعين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، إن “تعيين دبلوماسيين بارزين في الأماكن الرئيسية بجميع أنحاء العالم، لهو أمر بالغ الأهمية للأمن القومي للولايات المتحدة، وعلاقتنا بالحلفاء والشركاء”.
في هذا السياق، تحدثت مجلة Foreign Policy الأمريكية إلى مجموعة من النواب والدبلوماسيين وخبراء آخرين في الولايات المتحدة لاستطلاع آرائهم واختيار 5 أمثلة على أبرز الدول التي يغيب السفراء الأمريكيون عنها في الوقت الحالي.
1- الهند
ومنذ أن تولى بايدن منصبه، أخذ يتودد إلى الهند، التي يحتاج إلى تأييدها ضمن خطته الاستراتيجية الرامية إلى الحدِّ من النفوذ الجيوسياسي للصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وقال بايدن خلال اجتماع مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في مايو/أيار 2022: “أنا حريص على جعل الشراكة بين الولايات المتحدة والهند في أوثق درجاتها”.
مع ذلك، فإن خطة بايدن تعترضها عقبة بارزة: أن بايدن ليس لديه حتى الآن سفير في نيودلهي لمساعدته في إنجاز خطته. والواقع أن المنصب شاغر منذ أكثر من عامين، ما يعني أن الولايات المتحدة ليست لديها ممثل في أروقة السياسة والدبلوماسية الهندية. ومع ذلك، فإن هذا الغياب يرمز إلى مشكلة أكبر في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مرجعها الخلل المتزايد في قيام المؤسسات المعنية بوظائفها وتصاعد تأثير النزاعات الحزبية في سياسات واشنطن.
كما وصف وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، العلاقة بين الولايات المتحدة والهند -التي تولت هذا العام رئاسة مجموعة العشرين، وهي في طريقها لتصبح أكثر دول العالم سكاناً- بأنها علاقة بـ”إحدى أكثر الدول أهمية في العالم”.
مع ذلك، فإن الإدارة الأمريكية عجزت لأكثر من عامين عن تعيين سفير لها في الهند، فقد اختار بايدن إريك غارسيتي، عمدة لوس أنجلوس السابق، لتولي المنصب، إلا أن المشرعين الجمهوريين عارضوا هذا الاختيار، وأثار بعضهم مسألة تستره على مزاعم بالتحرش الجنسي لدى أحد موظفيه خلال ولايته للبلدية، وهكذا تعطل قرار الموافقة على التعيين طيلة عام تقريباً.
وقالت نيشا بيسوال، نائبة رئيس غرفة التجارة الأمريكية ومساعدة وزير الخارجية السابق لشؤون جنوب ووسط آسيا، إن التأخر في تعيين سفير للولايات المتحدة بالهند خاطر بتعطيل التعاون بين البلدين في قضايا المناخ، و”أرى أننا عجزنا عن دفع بعض المبادرات بالسرعة والفاعلية التي كانت ستمضي بها الأمور لو كان لدينا سفير هناك”.
الهند
ولا تقتصر تداعيات الأمر على اضطراب التعاون الحكومي بين البلدين، فقد امتد الأمر إلى الإضرار بالصورة العامة لواشنطن، وقالت بيسوال: “إنه يُظهر الولايات المتحدة في صورة الدولة التي تعاني خللاً وظيفياً في تسيير الأمور، والعاجزة سياسياً على تنظيم أحوالها في الداخل”.
أعاد بايدن ترشيح غارسيتي لمنصب سفير الولايات المتحدة بالهند على مجلس الشيوخ الذي يبدأ دورته هذا الشهر، بعد أن تعطلت عملية الموافقة على الترشيح في المجلس السابق. وقال مسؤول بالبيت الأبيض: “سارعنا بترشيح العمدة غارسيتي مرة أخرى في اليوم الأول لانعقاد المجلس؛ لأننا ما زلنا نرى أنه مرشح متمرس يحظى بتأييد من الحزبين ويستحق الموافقة السريعة على تعيينه في المنصب ذي الأهمية الحساسة لأمننا القومي”.
2- إثيوبيا
كانت إثيوبيا تعيش في غمار صراع مدمر ووحشي على مدار أكثر من عامين، فقد شنَّت الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وقوات من إريتريا المجاورة حملةً على قوات جبهة تحرير تيغراي الشعبية شمالي البلاد. وشهد الصراع فظائع لا حصر لها وادعاءات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
مع ذلك، وعلى الرغم من أن جيتا باسي، سفيرة الولايات المتحدة السابقة في إثيوبيا، قد استقالت من منصبها في فبراير/شباط 2022، فإن واشنطن لم ترسل بديلاً لها في المنصب حتى الآن.
وكان لهذا الغياب تأثير واضح في العلاقات الأمريكية بإثيوبيا، لا سيما بعد أن توسطت الولايات المتحدة وقوى إقليمية للتوصل إلى اتفاق سلام هش بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي. وقد رشح بايدن في مطلع هذا العام الدبلوماسي المحنك إرفين ماسينغا، ليحل محل باسي، لكن لا يُعرف بعد موقف مجلس الشيوخ من هذا الترشيح وموعد الرد عليه.
رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، أرشيفية/ رويترز
وقال كونز، السيناتور البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، إنه يأمل في تعجيل الموافقة على تعيين ماسينغا، لأنه “سيُساعد في مراقبة وقف إطلاق النار الحالي، وإيصال معونات الإغاثة الإنسانية، وتعزيز الحوار السياسي” بين القوى المتنازعة في إثيوبيا.
من جانب آخر، قال مسؤول كبير سابق بوزارة الخارجية إن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد “يدرك أهمية بلاده وتأثيرها في استقرار منطقة شرق إفريقيا، لذلك فإنه لن يمنح الدبلوماسيين من الرتب المتدنية الوقت والاهتمام”.
3- إيطاليا
فازت السياسية اليمينية المتشددة جورجيا ميلوني بالانتخابات في إيطاليا في أكتوبر/تشرين الأول 2022، ولما تولت رئاسة الوزراء على رأس حكومة يمينية زادت المخاوف في واشنطن ودول حلف الناتو بشأن مستقبل الديمقراطية في إيطاليا، فضلاً عن احتمال تراجع روما عن دعمها لأوكرانيا في حربها ضد روسيا.
على الرغم من أهمية هذه الأمور، فإن إدارة بايدن لم يكن لديها سفير في إيطاليا لإيصال رسائل الإدارة الأمريكية إلى الحكومة الجديدة. والواقع أن بايدن لم يرشح حتى الآن سفيراً للولايات المتحدة في إيطاليا، وهو ما استدعى بعض الغضب والامتعاض بين مسؤولي الاتحاد الأوروبي، الذين تحدثوا عن ذلك في الغرف المغلقة.
4- السعودية
لطالما كانت العلاقات بالسعودية محل اهتمام وتدقيق من واشنطن على نحو لم تحظ به إلا قلة من الدول، ومع ذلك فإن إدارة بايدن لم ترسل حتى الآن سفيراً لها في الرياض يُحسن توجيه الأمور في ظل العلاقات المتوترة بولي العهد السعودي.
كان بايدن قد تعهّد في حملته الانتخابية بمعاقبة النظام السعودي على قتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي، وإيلاء قضية حقوق الإنسان أهمية محورية في علاقاته الخارجية، ووعد بإعادة النظر في العلاقات الأمريكية السعودية و”نبذ” ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، في المحافل الدولية، إلا أن الإدارة الأمريكية اضطرت تحت وطأة ارتفاع أسعار النفط وضغوط شركات السلاح الأمريكية إلى تخفيف حدة انتقادها لولي العهد، ثم أجرى الرئيس بايدن زيارته الشهيرة إلى السعودية؛ سعياً لاستعادة الاستقرار في العلاقة بين البلدين.
أغضبت مبادرات بايدن الدبلوماسية للتقرب من السعودية نواب حزبه الديمقراطي، وزادت من الضغوط على مرشَّحه لمنصب سفير الولايات المتحدة في الرياض، الدبلوماسي المخضرم مايكل راتني، وجعلته عرضة للخلافات السياسية. وهكذا، أعلن السيناتور الديمقراطي رون وايدن في سبتمبر/أيلول 2022، أنه لن يوافق على تعيين راتني، إلا إذا أقنعته إدارة بايدن بأن لديها خطة متماسكة لوقف ما تقول واشنطن إنها انتهاكات لحقوق الإنسان.
واستشهد راتني بحادثة وقعت في مسقط رأسه بولاية أوريغون، والتي ثارت فيها مزاعم بأن الحكومة السعودية ساعدت مواطناً سعودياً في الفرار من الولايات المتحدة بعد اتهامه بقتل فتاة أمريكية في حادثة دهس.
لا يُعرف بعد إلى متى يمكن تأجيل تعيين راتني، لكن منصب السفير الأمريكي في الرياض شاغر منذ 20 يناير/كانون الثاني 2021، أي منذ غادر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب منصبه.
5- كولومبيا
في سياق المساعي المبذولة لتعزيز العلاقات مع كولومبيا، أحد أبرز شركاء الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، صنَّفتها إدارة بايدن حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة من خارج الناتو في مايو/أيار 2022. ووصفها بايدن بأنها “العمود الفقري، في رأيي، لنصف الكرة الأرضية كله”. وهو ما يزيد من حيرة خبراء السياسة الخارجية بشأن عدم وجود سفير أمريكي في بوغوتا حتى الآن.
رشَّح بايدن هذا الشهر جان إليزابيث مانس، كبيرة مستشاري السياسة الخارجية في القيادة العسكرية الجنوبية الأمريكية والسفيرة السابقة في السلفادور، لتكون سفيرة للولايات المتحدة في كولومبيا.
ومع ذلك، يحذّر خبراء من أن استمرار الغياب لسفير أمريكي هناك قد يُفهم منه قلة اهتمام بكولومبيا. وقال جيسون ماركزاك، كبير مدير مركز “أدريان أرشت لشؤون أمريكا اللاتينية” التابع للمجلس الأطلسي، “إن غياب السفير يُفهَم منه لدى كثيرين أن الولايات المتحدة ليست حريصة على العلاقات” بهذه الدولة.