الكاتب مصطفى إبراهيم
في ذكرى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2008، وما شهدته من جرائم حرب، أسفرت عن سقوط نحو 1500 شهيد وآلاف المصابين، والتدمير الرهيب للبنية التحتية في القطاع.
بعد هذه السنوات دولة الاحتلال مستمرة في عدوانها وجرائمها، وفرض العقوبات الجماعية والحصار، وما ترتكبه قوات الاحتلال في الضفة الغربية والقدس المحتلة من جرائم حرب يومية، الاعتقالات والقتل المتعمد بإعدام الفلسطينيين والعقوبات الجماعية، ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وهدم المنازل، واحتجاز جثامين الشهداء.
في العام 2019 تولى رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أفيف كوخافي منصبه والذي سيغادره الشهر المقبل، في ذلك الوقت عرض الخطة الجديدة للجيش الإسرائيلي “تنوفاه”، المتعددة السنوات، وهي تعظيم قوة الفتك من حيث الحجم والدقة. وأطلق عليها اسم القوة الدافعة “الزخم”، وحلت مكان خطة “غدعون”، التي وضعها رئيس أركان الجيش السابق، غادي آيزنكوت.
ووفقا لـ كوخافي إنه في نهاية أي مرحلة من الحرب، ينبغي التدقيق في حجم العدو والأهداف التي أبيدت، وليس في احتلال منطقة وحسب. بمعنى ان كل منطقة تعتبر هدف واحد كبير، لارتكاب جرائم حرب.
وفي حينه تعهد كوخافي، أن يجعل الجيش “فتاكا” أكثر، يعني أن يكون الجيش قاتلاً، ووصف الباحث في السياسة العامة وعلم الاجتماع السياسي في الجامعة المفتوحة، بروفيسور ياغيل ليفي، في مجلة “تيلم”، هذه عقيدته وأنها إرثه.
وحاول كوخافي تطبيق عقيدته هذه خلال العدوان على قطاع غزة في العام 2021، عندما نفذ كوخافي مناورة تضليلية تهدف إلى جعل المقاومين يدخلون إلى أنفاق في شمال قطاع غزة، وبعد ذلك قصف الأنفاق من الجو، بهدف قتل عشرات المقاتلين الفلسطينيين وأكثر. وفشلت تلك المناورة بتحقيق أهدافها وتم الادعاء من قبل الجيش بأنها حققت نجاحا جزئيا، حيث ذكر أنه استشهد في العملية نحو 30 مقاتلا.
يتبنى كوخافي عقيدة “تكتيك القتل”، وبحسب ليفي فإن كوخافي لخص تنفيذ عقيدته في خطاب، في أيلول/سبتمبر الماضي: بأن المفهوم (العسكري) وتطبيقه يعبران عن مبدأ مركزي وهو تصنيع الإبادة الدقيق بعمليات اجتياح وإطلاق نار تشارك فيها قوات مختلفة. وأن تعبير “تصنيع الإبادة” مزعج في أوروبا، لكن في إسرائيل العام 2022 لم يجذب انتباها حتى، والفتك، وربما تصنيعه أيضا، هو الإرث الثقافي الذي يتركه كوخافي وراءه.
بالنظر لما يمارسه الجيش الإسرائيلي وعقيدة كوخافي التي تمثل عقيدة الجيش الإسرائيلي، فهو لا يعمل في فراغ. خاصة أن الاتجاهات البارزة في الثقافة السياسية الإسرائيلية، وفي مقدمتها أداء الجيش في ظروف الجمود السياسي، والأثر الذي تركته قضية إليئور أزاريا”، الجندي الذي أعدم عبد الفتاح الشريف في الخليل في العام 2016، بعد إصابته بجروح خطيرة ولم يكن قادرا على الحركة.
وكما يقول ليفي في ظل الجمود السياسي والذي رافق فترة تولي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة، في العام 2009، بهدف منع قيام دولة فلسطينية. ونتيجة لذلك، جرت إعادة بلورة دور الجيش الإسرائيلي. ويتعين على الجيش منح حرية عمل للسياسيين كي يتوصلوا إلى تسوية، وضمان ألا يكتسب خصوم إسرائيل تفوقا يقيد في المستقبل قدرة السياسيين على المساومة.
وعندما لا يكون هناك هدفا سياسيا أو لا يكون واضحا، فإن السياسي يتحول إلى عسكري، ويكتسب الجيش قوة زائدة. وفي ظروف كهذه، لا ينحصر دور الجيش بتحقيق مكاسب قصيرة المدى. ومهمته هي جعل الهدف السياسي غير ضروري من خلال تنمية القناعة بأنه بالإمكان إزالة تهديدات بواسطة القوة العسكرية. وبكلمة أخرى، دور الجيش هو منح شرعية للجمود السياسي أيضا.
و”الفتك” لم يعد ميزة سلبية في ولاية كوخافي. وإنما الفتك هو القيمة التي ينبغي السعي إليها دون تردد في بلورة طبيعة الجيش. والجيش بقيادته حصل على دعم الوسط – يسار، لأنه منحه شرعية سياسية لتجميد حل الصراع الإسرائيلي – العربي، وحصل مجددا على ثقة اليمين، الذي يتزايد تطرفا وعنصرية.
وبالإمكان النظر إلى ذلك، بمجرد تحويل الصراع الإسرائيلي – العربي من صراع سياسي إلى صراع بين أنظمة أسلحة. وليس مستغربا أنه عندما تطورت انتفاضة أفراد في الضفة، العام الحالي 2022، لم يلجم الجيش بقيادة كوخافي المستوى السياسي مثلما فعل سلفه ازينكوت في هبة 2015/2016. بل على العكس، فقد سهّل الجيش تعليمات إطلاق النار وسمح بإطلاق النار على الفلسطينيين اللذين ألقوا حجارة أو زجاجات حارقة، أي من دون أن يكونوا يشكلون خطراً.
أظهر استطلاع نشره “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”، عام 2019، أن نسبة الذين يعتقدون أن قيم القيادة العسكرية قريبة من قيم الجمهور بشكل عام ارتفعت من 49% في العام 2016 إلى 71% في العام 2019، وذلك من دون فرق جوهري بين انتماء المستطلعين للمعسكرات السياسية.
ومع الإعلان عن قرب تولي الحكومة الإسرائيلية الجديدة والمكونة من اليمين واليمين الديني الصهيوني الأشد تطرفاً وفاشية وعنصرية، ومعركة التشريعات الجديدة التي يتوعد بسنها قادة الصهيونية الدينية لمحاربة الفلسطينيين، بما فيها قانون الإعدام، وقانون حصانة الجنود، الذي قدمه ايتمار بن غفير، على أنه دعم لجنود الجيش الإسرائيلي. وذريعة بن غفير، أن الجنود يصابون بالشلل أثناء تنفذ المهمات خوفا من القضاء.
وبالمناسبة هي امتداد لتصريحات نفتالي بينيت، الذي أعلن في حينه بأن الجنود يخافون من المدعي العام العسكري أكثر من الخوف من يحيى السنوار.
هذه التشريعات المنتظرة، ليست شعبوية وكسب الناخبين، فهي خطط وسياسات تعبر عن حقيقة اليمين الكهاني الفاشي، والادعاء بأن الجنود المصابون بالشلل والخائفون يمارسوا الفتك والابادة والقتل اليومي المتعمد ضد الفلسطينيين، حيث استشهد خلال العام الجاري أكثر من 175 شهيدا في الضفة، إضافة إلى 56 شهيداً في غزة.
وعلى الرغم من مرور كل تلك السنوات ودورات العدوان المتتالية، لا تزال دولة الاحتلال مستمرة في عدوانها والفتك بالفلسطينيين، وارتكاب مزيد من الجرائم ضدهم. في ظل غياب العدالة وافلات قادة الاحتلال الإسرائيلي من المساءلة والمحاسبة على جرائمهم ضد الفلسطينيين، وصمت المجتمع الدولي على تصريحات كوخافي العلنية بخططه للإبادة والفتك بالفلسطينيين.
يعتقد المقربين من نتنياهو بشيء واحد، أن إدارة بايدن لا ترى المشكلة الفلسطينية كقضية رئيسية على جدول الأعمال العالمي. لكن بالنسبة للولايات المتحدة، من الأهمية بمكان ألا تنفجر الساحة مرة أخرى وتتطلب إدارة واهتماماً يومياً، بطريقة تجعل من الصعب التعامل مع المشكلات الأكثر إلحاحًا مثل المنافسة مع الصين والحرب في أوكرانيا.
هل تدرك القيادة الفلسطينية هذه السياسية الفاشية، وحرب الإبادة والقتل، وخطورة نتنياهو وحكومته، وخططها المعدة سلفاً للاستمرار في الفتك، ومصادرة الأراضي والضم العلني واعدام الفلسطينيين، والتنكر لحقوقهم؟