في 13 أيلول 1993، شاهد العالم تصافح رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، ورئيس وزراء إسرائيل عندئذ، إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض، وهي لحظة اعتبرها المراقبون “لحظة مذهلة”، كما شكلت المصافحة الشهيرة بين الأعداء بداية ما أصبح يعرف باسم اتفاقيات أوسلو، وهي إطار للمحادثات بين المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين، بوساطة الأميركيين.
وكانت الفكرة تتلخص في تمكين الفلسطينيين في نهاية المطاف من خلال المفاوضات المفتوحة وتدابير بناء الثقة من السيطرة على شؤونهم الخاصة في الأراضي المحتلة عام 1967، الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وبعد مرور فترة انتقالية مدتها خمس سنوات، كان الاعتقاد السائد هو أن الدولة الفلسطينية ستعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل. ومن خلال حل الدولتين هذا، يمكن تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
واليوم، بعد مرور ثلاثين عاماً، يعتقد الخبراء، أنه أصبح من الواضح أن اتفاقيات أوسلو لم تحقق السلام ولا حل الدولتين. خاصة وأنه – وفق كل الإحصائيات – قُتل أكثر من 200 فلسطيني وحوالي 30 إسرائيليًا حتى الآن في عام 2023 وحده، ويقود إسرائيل حكومة هي الأكثر يمينية وتطرفا في تاريخها، فيما تعاني القيادة الفلسطينية من الضعف والانقسام، بينما لا يوجد احتمال ، ولو كان ضعيفا، للعودة إلى المفاوضات في أي وقت قريب.
أميركيا، تخلت الإدارات الأميركية المتتابعة منذ عام 2014 وحتى اليوم عن فكرة رعاية تفاوض بين الفلسطينيين وإسرائيل، وألغت موقع “مبعوث السلام” واستبدلته بموقع “مبعوث التطبيع” الذي يعطي الأولوية في السياسة الأميركية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى السعي الحثيث لتحقيق صفقات تطبيع بين الدول العربية وإسرائيلي، كما رأينا في ما يسمى “اتفاقات إبراهام” ، وسعيها اللحوح حاليا لضم المملكة العربية السعودية لهذه الاتفاقيات.
وفيما يتساءل الكثيرون عن كيف انبثق (حاليا) هذا الواقع المرير ، عن الآمال الكبيرة في عام 1993، يشير آخرون إلى انتهاكات شروط الاتفاقات من الجانبين. ويلقي آخرون اللوم على الافتقار إلى المساءلة، مما سمح لهذه الانتهاكات بالمرور دون رادع.
يعتقد بعض الخبراء أن عملية أوسلو للسلام فشلت لأن الإطار نفسه كان معيباً ومحفوفا بالثغرات إلى حد كبير في ثلاث مفاصل رئيسية : أولاً، تجاهلت الاتفاقيات اختلال توازن القوى بين الجانبين؛ ثانياً، ركزت على إنهاء العنف الذي تمارسه الجماعات الفلسطينية المسلحة مع التغاضي عن أعمال العنف التي ترتكبها دولة الاحتلال الإسرائيلي، وثالثاً، سعت اتفاقات أوسلو إلى السلام كهدف نهائي، بدلاً من العدالة.
حيث اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية ضمناً بإسرائيل في عام 1988 (المجلس الوطني في الجزائر يوم 15 تشرين الثاني 1988). ولكن عندما كان هناك حاجة إلى بيان أكثر رسمية حتى توافق إسرائيل على المحادثات، تم تبادل رسائل في 9 أيلول 1993، وكتب ياسر عرفات في رسالته إلى رابين: “تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بحق دولة إسرائيل في الوجود بسلام وأمن”. وبحسب الخبراء عندئذ، فإن باعترافها رسمياً بحق إسرائيل في الوجود، تخلت منظمة التحرير الفلسطينية عمليا عن مطالبتها السيادية الوحيدة بـ 78% من الوطن التاريخي للفلسطينيين الذي تطالب به إسرائيل الآن.
ورداً على ذلك، كتب رابين إلى عرفات أن إسرائيل “ستعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني” دون الاعتراف بحق الفلسطينيين في تشكيل دولتهم.
وفي “إعلان المبادئ” الذي وقعه عرفات ورابين في البيت الأبيض في 13 أيلول، جاء أن هدف المحادثات هو “تنفيذ قراري مجلس الأمن رقم 242 (من عام 1967) و338 (من عام 1973 التي طالبت إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967 وتدعو صراحة إلى إقامة دولة فلسطينية.
ومنذ ذلك الحين، صادرت إسرائيل ما يقرب من نصف الضفة الغربية للاستخدام الحصري للمستوطنين اليهود، في انتهاك للقانون الدولي كما أنها تقوم بشكل روتيني بسحب المياه من طبقات المياه الجوفية الفلسطينية لاستخدامها من قبل المستوطنين، بينما تحرم الفلسطينيين من الوصول إلى مياههم الخاصة.
وبحسب أغلبية التقديرات، أصبحت حياة الفلسطينيين أسوأ خلال سنوات ما بعد أوسلو وفق هذه التدابير، وليس أفضل ومع فقدان الفلسطينيين المزيد من السيطرة على أراضيهم ومنازلهم ومواردهم، أصبحت قدرتهم على إقامة دولة بعيدة المنال.
وبحسب الخبراء ، فإن من خلال الإصرار على إجراء المفاوضات الثنائية بين دولة إسرائيل القوية المدعومة أميركيا وأوروبيا دعما غير مشروطا، وشعب بلا دولة ، وبدون رعاية الأمم المتحدة أو أي هيئة دولية أخرى ، تجاهل إطار أوسلو اختلال توازن القوى بين إسرائيل والفلسطينيين، فيما أصر الوسطاء الأميركيون على أن كلا الجانبين بحاجة إلى التوصل إلى التسوية عبر التنازل، في وقت تمتلك فيه إسرائيل قوة عسكرية واقتصادية ودبلوماسية مئات أضعاف ما يمتلكه الطرف الفلسطيني.
ومن خلال تجاهل هذا الخلل في توازن القوى، سمحت اتفاقيات أوسلو لإسرائيل فعلياً بمواصلة مصادرة الأراضي والموارد دون أي عواقب. ومع وجود 60% من الضفة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية، فقد تم تقويض احتمالات قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة.
كما نصت اتفاقية المتابعة لعام 1994 على أن “يتخذ الجانبان جميع التدابير اللازمة لمنع أعمال الإرهاب والجريمة والأعمال العدائية الموجهة ضد بعضهما البعض”. وأضافت أن “الجانب الفلسطيني سيتخذ كافة الإجراءات اللازمة لمنع مثل هذه الأعمال العدائية الموجهة ضد المستوطنات والبنية التحتية التي تخدمها ومنطقة المنشآت العسكرية”.
وقد فسرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مصطلح “الأعمال العدائية” على نطاق فضفاض، يسمح لها باستهداف الفلسطينيين الذين دافعوا عن أراضيهم من خلال وسائل غير عنيفة واعتقالهم وسجنهم وإطلاق النار عليهم من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي .
كما نص الاتفاق على أن “يتخذ الجانب الإسرائيلي كافة الإجراءات اللازمة لمنع مثل هذه الأعمال العدائية الصادرة من المستوطنات والموجهة ضد الفلسطينيين”. ولم يأت الاتفاق على يذكر عنف الاحتلال العسكري الإسرائيلي اليومي ضد المدنيين الفلسطينيين.
يذكر أنه بعد شهر واحد من المصافحة الشهيرة (13 أيلول 2023)، وصف الكاتب الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد اتفاقات أوسلو بأنها “أداة للاستسلام الفلسطيني”، فيما دعت مؤخراً مجموعة من كبار علماء السياسة صناع القرار في الولايات المتحدة إلى التخلي عن إطار أوسلو وحل الدولتين تماماً.
ويدعون الولايات المتحدة بدلا من ذلك إلى “الدفاع عن المساواة والمواطنة وحقوق الإنسان لجميع اليهود والفلسطينيين الذين يعيشون داخل الدولة الواحدة التي تهيمن عليها إسرائيل”.